تفسير ابن كثير
ثم قال تعالى : ( ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا ) أي : في عرصات القيامة ، ( وهو واقع بهم ) أي : الذي يخافون منه واقع بهم لا محالة ، هذا حالهم يوم معادهم ، وهم في هذا الخوف والوجل ، ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ) فأين هذا من هذا : أين من هو في العرصات في الذل والهوان والخوف المحقق عليه بظلمه ، ممن هو في روضات الجنات ، فيما يشاء من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومناظر ومناكح وملاذ ، فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
قال : الحسن بن عرفة : حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار ، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري عن أبي طيبة ، قال : إن الشرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة فتقول : ما أمطركم ؟ قال : فما يدعو داع من القوم بشيء إلا أمطرتهم ، حتى إن القائل منهم ليقول : أمطرينا كواعب أترابا .
رواه ابن جرير ، عن الحسن بن عرفة ، به .
ولهذا قال تعالى : ( ذلك هو الفضل الكبير ) أي : الفوز العظيم ، والنعمة التامة السابغة الشاملة العامة .
تفسير السعدي
وفي ذلك اليوم { تَرَى الظَّالِمِينَ } أنفسهم بالكفر والمعاصي { مُشْفِقِينَ } أي: خائفين وجلين { مِمَّا كَسَبُوا } أن يعاقبوا عليه.
ولما كان الخائف قد يقع به ما أشفق منه وخافه، وقد لا يقع، أخبر أنه { وَاقِعٌ بِهِمْ } العقاب الذي خافوه، لأنهم أتوا بالسبب التام الموجب للعقاب، من غير معارض، من توبة ولا غيرها، ووصلوا موضعا فات فيه الإنظار والإمهال.
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم بالله وبكتبه ورسله وما جاءوا به، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } يشمل كل عمل صالح من أعمال القلوب، وأعمال الجوارح من الواجبات والمستحبات، فهؤلاء { فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ } أي: الروضات المضافة إلى الجنات، والمضاف يكون بحسب المضاف إليه، فلا تسأل عن بهجة تلك الرياض المونقة، وما فيها من الأنهارالمتدفقة، والفياض المعشبة، والمناظر الحسنة، والأشجار المثمرة، والطيور المغردة، والأصوات الشجية المطربة، والاجتماع بكل حبيب، والأخذ من المعاشرة والمنادمة بأكمل نصيب، رياض لا تزداد على طول المدى إلا حسنا وبهاء، ولا يزداد أهلها إلا اشتياقا إلى لذاتها وودادا، { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ } فيها، أي: في الجنات، فمهما أرادوا فهو حاصل، ومهما طلبوا حصل، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. { ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } وهل فوز أكبر من الفوز برضا الله تعالى، والتنعم بقربه في دار كرامته؟
تفسير القرطبي
قوله تعالى : ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير .
قوله تعالى : ترى الظالمين مشفقين أي خائفين مما كسبوا أي من جزاء ما كسبوا . والظالمون هاهنا الكافرون ، بدليل التقسيم بين المؤمن والكافر . ( وهو واقع بهم ) أي نازل بهم . والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات الروضة : الموضع النزه الكثير الخضرة . وقد مضى في ( الروم ) .
لهم ما يشاءون عند ربهم أي من النعيم والثواب الجزيل . ذلك هو الفضل الكبير أي لا يوصف ولا تهتدي العقول إلى كنه صفته ; لأن الحق إذا قال ( كبير ) فمن ذا الذي يقدر قدره .
تفسير الطبري
القول في تأويل قوله تعالى : تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ترى يا محمد الكافرين بالله يوم القيامة ( مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا ) يقول: وَجِلين خائفين من عقاب الله على ما كسبوا في الدنيا من أعمالهم الخبيثة.( وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ ) يقول: والذين هم مشفقون منه من عذاب الله نازل بهم, وهم ذائقوه لا محالة.
وقوله: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ ) يقول تعالى ذكره: والذين آمنوا بالله وأطاعوه فيما أمر ونهى في الدنيا في روضات البساتين في الآخرة. ويعني بالروضات: جمع روضة, وهي المكان الذي يكثر نبته, ولا تقول العرب لمواضع الأشجار رياض; ومنه قول أبي النجم.
والنَّغــضَ مِثْـلَ الأجْـرَبِ المُدَّجَّـلِ
حَــدائِقَ الـرَّوْضِ التـي لَـمْ تُحْـلَلِ (1)
يعني بالروض: جمع روضة. وإنما عنى جل ثناؤه بذلك: الخبر عما هم فيه من السرور والنعيم.
كما: حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ ) إلى آخر الآية. قال في رياض الجنة ونعيمها.
وقوله: ( لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) يقول للذين آمنوا وعملوا الصالحات عند ربهم في الآخرة ما تشتهيه أنفسهم, وتلذّه أعينهم, ذلك هوالفوز الكبير, يقول تعالى ذكره: هذا الذي أعطاهم الله من هذا النعيم, وهذه الكرامة في الآخرة: هو الفضل من الله عليهم, الكبير الذي يفضل كلّ نعيم وكرامة في الدنيا من بعض أهلها على بعض.
------------------------
الهوامش:
(1) هذان بيتان من مشطور الرجز ، لأبي النجم الفضل بن قدامة العجلي والأرجوزة بتمامها في مجلة المجمع العلمي ( مجلد 8 : 472 ) وروى البيت الأول منهما وفسره ابن قتيبة في كتابه ( المعاني الكبير ، طبع الهند 332 - 333) والنغض من أسماء الظليم ، لأنه يحرك رأسه إذا عدا . والمدجل : المهنوء بالقطران . وشبهه بالأجرب ، لأنه قد أسن وذهب ريشه من أرفاغه . وفي ( اللسان : دجل) : شدة طلي الجرب بالقطران . والمدجل : المهنوء بالقطران . ونغض برأسه ينغض نغضا : حركه . وإنما سمي الظليم نغضا ، لأنه إذا عجل في مشيته ارتفع وانخفض . ا هـ . والنغض منصوب بالفعل" راعت" في البيت قبله ، أي راقبته ونظرت إليه . والحدائق : جمع حديقة ، وهي القطعة من الزرع ؛ وكل بستان كان عليه حائط فهو حديقة . وما لم يكن عليه حائط ، لم يقل له حديقة . وقال الزجاج : الحدائق البساتين والشجر الملتف . وحدائق الروض : ما أعشب منه والتف . يقال : روضة بني فلان ما هي إلا حديقة . وإذا لم يكن فيها عشب فهي روضة ( اللسان : حدق ) ونصب قوله حدائق بقوله" تبقلت من أول التبقل" وهو بيت في أول الأرجوزة . والتي لم تحال : التي لم توطأ ولم ترعها الحيوانات ، فيقل نبتها .