2-سورة البقرة 61
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ
واذكروا حين أنزلنا عليكم الطعام الحلو، والطير الشهي، فبطِرتم النعمة كعادتكم، وأصابكم الضيق والملل، فقلتم: يا موسى لن نصبر على طعام ثابت لا يتغير مع الأيام، فادع لنا ربك يخرج لنا من نبات الأرض طعامًا من البقول والخُضَر، والقثاء والحبوب التي تؤكل، والعدس، والبصل. قال موسى -مستنكرًا عليهم-: أتطلبون هذه الأطعمة التي هي أقل قدرًا، وتتركون هذا الرزق النافع الذي اختاره الله لكم؟ اهبطوا من هذه البادية إلى أي مدينة، تجدوا ما اشتهيتم كثيرًا في الحقول والأسواق. ولما هبطوا تبيَّن لهم أنهم يُقَدِّمون اختيارهم -في كل موطن- على اختيار الله، ويُؤْثِرون شهواتهم على ما اختاره الله لهم؛ لذلك لزمتهم صِفَةُ الذل وفقر النفوس، وانصرفوا ورجعوا بغضب من الله؛ لإعراضهم عن دين الله، ولأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين ظلمًا وعدوانًا؛ وذلك بسبب عصيانهم وتجاوزهم حدود ربهم.
تفسير ابن كثير
يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى ، طعاما طيبا نافعا هنيئا سهلا واذكروا دبركم وضجركم مما رزقتكم وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنية من البقول ونحوها مما سألتم . وقال الحسن البصري رحمه الله : فبطروا ذلك ولم يصبروا عليه ، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه ، وكانوا قوما أهل أعداس وبصل وبقل وفوم ، فقالوا : ( يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ) [ وهم يأكلون المن والسلوى ، لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم فهو كأكل واحد ] . فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة . وأما الفوم فقد اختلف السلف في معناه فوقع في قراءة ابن مسعود وثومها بالثاء ، وكذلك فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي سليم ، عنه ، بالثوم . وكذا الربيع بن أنس ، وسعيد بن جبير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن رافع ، حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق البصري ، عن يونس ، عن الحسن ، في قوله : ( وفومها ) قال : قال ابن عباس : الثوم .
قالوا : وفي اللغة القديمة : فوموا لنا بمعنى : اختبزوا . وقال ابن جرير : فإن كان ذلك صحيحا ، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم : وقعوا في عاثور شر ، وعافور شر ، وأثافي وأثاثي ، ومغافير ومغاثير . وأشباه ذلك مما تقلب الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما ، والله أعلم .
وقال آخرون : الفوم الحنطة ، وهو البر الذي يعمل منه الخبز .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أنبأنا ابن وهب قراءة ، حدثني نافع بن أبي نعيم : أن ابن عباس سئل عن قول الله : ( وفومها ) ما فومها ؟ قال : الحنطة . قال ابن عباس : أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول :
قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا ورد المدينة عن زراعة فوم
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن الحسن ، حدثنا مسلم الجرمي ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن رشدين بن كريب ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قول الله تعالى : ( وفومها ) قال : الفوم الحنطة بلسان بني هاشم .
وكذا قال علي بن أبي طلحة ، والضحاك وعكرمة عن ابن عباس أن الفوم : الحنطة .
وقال سفيان الثوري ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وعطاء : ( وفومها ) قالا وخبزها .
وقال هشيم عن يونس ، عن الحسن ، وحصين ، عن أبي مالك : ( وفومها ) قال : الحنطة .
وهو قول عكرمة ، والسدي ، والحسن البصري ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم ، والله أعلم .
[ وقال الجوهري : الفوم : الحنطة . وقال ابن دريد : الفوم : السنبلة ، وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة أن الفوم كل حب يختبز . قال : وقال بعضهم : هو الحمص لغة شامية ، ومنه يقال لبائعه : فامي مغير عن فومي ] .
وقال البخاري : وقال بعضهم : الحبوب التي تؤكل كلها فوم .
وقوله تعالى : ( قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنية مع ما هم فيه من العيش الرغيد ، والطعام الهنيء الطيب النافع .
وقوله : ( اهبطوا مصرا ) هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية ، وهو قراءة الجمهور بالصرف .
قال ابن جرير : ولا أستجيز القراءة بغير ذلك ؛ لإجماع المصاحف على ذلك .
وقال ابن عباس : ( اهبطوا مصرا ) قال : مصرا من الأمصار ، رواه ابن أبي حاتم ، من حديث أبي سعيد البقال سعيد بن المرزبان ، عن عكرمة ، عنه .
قال : وروي عن السدي ، وقتادة ، والربيع بن أنس نحو ذلك .
وقال ابن جرير : وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود : اهبطوا مصر من غير إجراء يعني من غير صرف . ثم روى عن أبي العالية ، والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك بمصر فرعون .
وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية ، وعن الأعمش أيضا .
وقال ابن جرير : ويحتمل أن يكون المراد مصر فرعون على قراءة الإجراء أيضا . ويكون ذلك من باب الاتباع لكتابة المصحف ، كما في قوله تعالى : ( قواريرا قواريرا ) [ الإنسان : 15 ، 16 ] . ثم توقف في المراد ما هو ؟ أمصر فرعون أم مصر من الأمصار ؟
وهذا الذي قاله فيه نظر ، والحق أن المراد مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره ، والمعنى على ذلك لأن موسى ، عليه السلام يقول لهم : هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز ، بل هو كثير في أي بلد دخلتموه وجدتموه ، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه ؛ ولهذا قال : ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ) أي : ما طلبتم ، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه ، لم يجابوا إليه ، والله أعلم
يقول تعالى : ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة ) أي : وضعت عليهم وألزموا بها شرعا وقدرا ، أي : لا يزالون مستذلين ، من وجدهم استذلهم وأهانهم ، وضرب عليهم الصغار ، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون .
قال الضحاك عن ابن عباس في قوله : ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة ) قال : هم أصحاب النيالات يعني أصحاب الجزية .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الحسن وقتادة ، في قوله تعالى : ( وضربت عليهم ) قال : يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون ، وقال الضحاك : ( وضربت عليهم الذلة ) قال : الذل . وقال الحسن : أذلهم الله فلا منعة لهم ، وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين . ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية .
وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي : المسكنة : الفاقة . وقال عطية العوفي : الخراج . وقال الضحاك : الجزية .
وقوله تعالى : ( وباءوا بغضب من الله ) قال الضحاك : استحقوا الغضب من الله ، وقال الربيع بن أنس : فحدث عليهم غضب من الله . وقال سعيد بن جبير : ( وباءوا بغضب من الله ) يقول : استوجبوا سخطا ، وقال ابن جرير : يعني بقوله : ( وباءوا بغضب من الله ) انصرفوا ورجعوا ، ولا يقال : باءوا إلا موصولا إما بخير وإما بشر ، يقال منه : باء فلان بذنبه يبوء به بوءا وبواء . ومنه قوله تعالى : ( إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ) [ المائدة : 29 ] يعني : تنصرف متحملهما وترجع بهما ، قد صارا عليك دوني . فمعنى الكلام إذا : فرجعوا منصرفين متحملين غضب الله ، قد صار عليهم من الله غضب ، ووجب عليهم من الله سخط .
وقوله تعالى : ( ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ) يقول تعالى :
هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة ، وإحلال الغضب بهم بسبب استكبارهم عن اتباع الحق ، وكفرهم بآيات الله ، وإهانتهم حملة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم ، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم ، فلا كبر أعظم من هذا ، إنهم كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياء الله بغير الحق ؛ ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الكبر بطر الحق ، وغمط الناس .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، عن ابن عون ، عن عمرو بن سعيد ، عن حميد بن عبد الرحمن ، قال : قال ابن مسعود : كنت لا أحجب عن النجوى ، ولا عن كذا ولا عن كذا قال : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي ، فأدركته من آخر حديثه ، وهو يقول : يا رسول الله ، قد قسم لي من الجمال ما ترى ، فما أحب أن أحدا من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما أفليس ذلك هو البغي ؟ فقال : لا ليس ذلك من البغي ، ولكن البغي من بطر - أو قال : سفه الحق - وغمط الناس . يعني : رد الحق وانتقاص الناس ، والازدراء بهم والتعاظم عليهم . ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله وقتل أنبيائهم ، أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد ، وكساهم ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة جزاء وفاقا .
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي ، ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبان ، حدثنا عاصم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله - يعني ابن مسعود - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتله نبي ، أو قتل نبيا ، وإمام ضلالة وممثل من الممثلين .
وقوله تعالى : ( ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به ، أنهم كانوا يعصون ويعتدون ، فالعصيان فعل المناهي ، والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه أو المأمور به . والله أعلم .
تفسير السعدي
أي: واذكروا, إذ قلتم لموسى, على وجه التملل لنعم الله والاحتقار لها، { لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ } أي: جنس من الطعام, وإن كان كما تقدم أنواعا, لكنها لا تتغير، { فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا } أي: نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه، { وَقِثَّائِهَا } وهو الخيار { وَفُومِهَا } أي: ثومها، والعدس والبصل معروف، قال لهم موسي { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى } وهو الأطعمة المذكورة، { بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وهو المن والسلوى, فهذا غير لائق بكم، فإن هذه الأطعمة التي طلبتم, أي مصر هبطتموه وجدتموها، وأما طعامكم الذي من الله به عليكم, فهو خير الأطعمة وأشرفها, فكيف تطلبون به بدلا؟ ولما كان الذي جرى منهم فيه أكبر دليل على قلة صبرهم واحتقارهم لأوامر الله ونعمه, جازاهم من جنس عملهم فقال: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } التي تشاهد على ظاهر أبدانهم { وَالْمَسْكَنَةُ } بقلوبهم، فلم تكن أنفسهم عزيزة, ولا لهم همم عالية, بل أنفسهم أنفس مهينة, وهممهم أردأ الهمم، { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } أي: لم تكن غنيمتهم التي رجعوا بها وفازوا, إلا أن رجعوا بسخطه عليهم, فبئست الغنيمة غنيمتهم, وبئست الحالة حالتهم. { ذَلِكَ } الذي استحقوا به غضبه { بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } الدالات على الحق الموضحة لهم, فلما كفروا بها عاقبهم بغضبه عليهم, وبما كانوا { يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } وقوله: { بِغَيْرِ الْحَقِّ } زيادة شناعة, وإلا فمن المعلوم أن قتل النبي لا يكون بحق, لكن لئلا يظن جهلهم وعدم علمهم. { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا } بأن ارتكبوا معاصي الله { وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } على عباد الله, فإن المعاصي يجر بعضها بعضا، فالغفلة ينشأ عنها الذنب الصغير, ثم ينشأ عنه الذنب الكبير, ثم ينشأ عنها أنواع البدع والكفر وغير ذلك, فنسأل الله العافية من كل بلاء. واعلم أن الخطاب في هذه الآيات لأمة بني إسرائيل الذين كانوا موجودين وقت نزول القرآن, وهذه الأفعال المذكورة خوطبوا بها وهي فعل أسلافهم, ونسبت لهم لفوائد عديدة، منها: أنهم كانوا يتمدحون ويزكون أنفسهم, ويزعمون فضلهم على محمد ومن آمن به، فبين الله من أحوال سلفهم التي قد تقررت عندهم, ما يبين به لكل أحد [منهم] أنهم ليسوا من أهل الصبر ومكارم الأخلاق, ومعالي الأعمال، فإذا كانت هذه حالة سلفهم، مع أن المظنة أنهم أولى وأرفع حالة ممن بعدهم فكيف الظن بالمخاطبين؟". ومنها: أن نعمة الله على المتقدمين منهم, نعمة واصلة إلى المتأخرين, والنعمة على الآباء, نعمة على الأبناء، فخوطبوا بها, لأنها نعم تشملهم وتعمهم. ومنها: أن الخطاب لهم بأفعال غيرهم, مما يدل على أن الأمة المجتمعة على دين تتكافل وتتساعد على مصالحها, حتى كان متقدمهم ومتأخرهم في وقت واحد, وكان الحادث من بعضهم حادثا من الجميع. لأن ما يعمله بعضهم من الخير يعود بمصلحة الجميع, وما يعمله من الشر يعود بضرر الجميع. ومنها: أن أفعالهم أكثرها لم ينكروها, والراضي بالمعصية شريك للعاصي، إلى غير ذلك من الحِكَم التي لا يعلمها إلا الله.
تفسير القرطبي
قوله تعالى : وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
قوله تعالى : وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى وتذكروا عيشهم الأول بمصر ، قال الحسن : كانوا نتانى أهل كراث وأبصال وأعداس فنزعوا إلى عكرهم عكر السوء واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم ، فقالوا : لن نصبر على طعام واحد ، وكنوا عن المن والسلوى بطعام واحد وهما اثنان ؛ لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر ، فلذلك قالوا : طعام واحد ، وقيل : لتكرارهما في كل يوم غذاء كما تقول لمن يداوم على الصوم والصلاة والقراءة هو على أمر واحد لملازمته لذلك ، وقيل : المعنى لن نصبر على الغنى فيكون جميعنا أغنياء فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض لاستغناء كل واحد منا بنفسه ، وكذلك كانوا ، فهم أول من اتخذ العبيد والخدم .
قوله تعالى : على طعام الطعام يطلق على ما يطعم ويشرب ، قال الله تعالى : ومن لم يطعمه فإنه مني وقال : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا أي : ما شربوه من الخمر على - ما يأتي بيانه - وإن كان السلوى العسل كما حكى المؤرج فهو مشروب أيضا وربما خص بالطعام البر والتمر كما في حديث أبي سعيد الخدري قال : كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من شعير الحديث . والعرف جار بأن القائل : ذهبت إلى سوق الطعام ، فليس يفهم منه إلا موضع بيعه دون غيره مما يؤكل أو يشرب ، والطعم ( بالفتح ) هو ما يؤديه الذوق ، يقال : طعمه مر والطعم أيضا ما يشتهى منه ، يقال : ليس له طعم ، وما فلان بذي طعم إذا كان غثا والطعم ( بالضم ) الطعام ، قال أبو خراش :
أرد شجاع البطن لو تعلمينه وأوثر غيري من عيالك بالطعم وأغتبق الماء القراح فأنتهي
إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم
أراد بالأول الطعام وبالثاني ما يشتهى منه ، وقد طعم يطعم فهو طاعم إذا أكل وذاق ، ومنه قوله تعالى : ومن لم يطعمه فإنه مني أي : من لم يذقه ، وقال : فإذا طعمتم فانتشروا أي : أكلتم ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمزم : إنها طعام طعم وشفاء سقم واستطعمني فلان الحديث إذا أراد أن تحدثه ، وفي الحديث : إذا استطعمكم الإمام فأطعموه يقول إذا استفتح فافتحوا عليه ، وفلان ما يطعم النوم إلا قائما ، وقال الشاعر :
نعاما بوجرة صفر الخدو د ما تطعم النوم إلا صياما
قوله تعالى : واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض لغة بني عامر " فادع " بكسر العين لالتقاء الساكنين يجرون المعتل مجرى الصحيح ولا يراعون المحذوف ، و " يخرج " مجزوم على معنى : سله وقل له أخرج يخرج ، وقيل : هو على معنى الدعاء على تقدير حذف اللام وضعفه الزجاج و " من " في قوله : " مما " زائدة في قول الأخفش وغير زائدة في قول سيبويه ؛ لأن الكلام موجب ، قال النحاس : وإنما دعا الأخفش إلى هذا ؛ لأنه لم يجد مفعولا ل " يخرج " فأراد أن يجعل " ما " مفعولا ، والأولى أن يكون المفعول محذوفا دل عليه سائر الكلام ، التقدير : يخرج لنا مما تنبت الأرض مأكولا ، ف " من " الأولى على هذا للتبعيض ، والثانية للتخصيص .
" من بقلها " بدل من " ما " بإعادة الحرف . و " قثائها " عطف عليه ، وكذا ما بعده فاعلمه ، والقثاء أيضا معروف وقد تضم قافه وهي قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف ، لغتان ، والكسر أكثر ، وقيل في جمع قثاء : قثائي مثل علباء وعلابي إلا أن قثاء من ذوات الواو ، تقول : أقثأت القوم أي : أطعمتهم ذلك .
وفثأت القدر سكنت غليانها بالماء ، قال الجعدي :
تفور علينا قدرهم فنديمها ونفثؤها عنا إذا حميها غلا
وفثأت الرجل إذا كسرته عنك بقول أو غيره وسكنت غضبه ، وعدا حتى أفثأ أي : أعيا وانبهر وأفثأ الحر أي : سكن وفتر ومن أمثالهم في اليسير من البر قولهم إن الرثيئة تفثأ في الغضب ، وأصله أن رجلا كان غضب على قوم ، وكان مع غضبه جائعا فسقوه رثيئة فسكن غضبه وكف عنهم . الرثيئة اللبن المحلوب على الحامض ليخثر ، رثأت اللبن رثأ إذا حلبته على حامض فخثر ، والاسم الرثيئة وارتثأ اللبن خثر .
وروى ابن ماجه ، حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت كانت أمي تعالجني للسمنة تريد أن تدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم فما استقام لها ذلك حتى أكلت القثاء بالرطب فسمنت كأحسن سمنة وهذا إسناد صحيح
قوله تعالى : " وفومها " اختلف في الفوم ، فقيل : هو الثوم ؛ لأنه المشاكل للبصل ، رواه جويبر عن الضحاك والثاء تبدل من الفاء كما قالوا : مغافير ومغاثير ، وجدث وجدف للقبر ، وقرأ ابن مسعود " ثومها " بالثاء المثلثة ، وروي ذلك عن ابن عباس وقال أمية بن أبي الصلت :
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس والفومان والبصل
الفراديس واحدها فرديس وكرم مفردس أي : معرش .
وقال حسان :
وأنتم أناس لئام الأصول طعامكم الفوم والحوقل
يعني الثوم والبصل وهو قول الكسائي والنضر بن شميل وقيل : الفوم الحنطة روي عن ابن عباس - أيضا - وأكثر المفسرين ، واختاره النحاس قال : وهو أولى ، ومن قال به أعلى وأسانيده صحاح ، وليس جويبر بنظير لروايته وإن كان الكسائي والفراء قد اختارا القول الأول لإبدال العرب الفاء من الثاء ، والإبدال لا يقاس عليه وليس ذلك بكثير في كلام العرب ، وأنشد ابن عباس - لمن سأله عن الفوم وأنه الحنطة - قول أحيحة بن الجلاح :
قد كنت أغنى الناس شخصا واجدا ورد المدينة عن زراعة فوم
وقال أبو إسحاق الزجاج : وكيف يطلب القوم طعاما لا بر فيه والبر أصل الغذاء ، وقال الجوهري أبو نصر : الفوم الحنطة وأنشد الأخفش :
قد كنت أحسبني كأغنى واجد نزل المدينة عن زراعة فوم
وقال ابن دريد الفومة السنبلة وأنشد :
وقال ربيئهم لما أتانا بكفه فومة أو فومتان
والهاء في " كفه " غير مشبعة ، وقال بعضهم : الفوم الحمص - لغة شامية - وبائعه فامي مغير عن فومي ؛ لأنهم قد يغيرون في النسب ، كما قالوا : سهلي ودهري . ويقال : فوموا لنا أي : اختبزوا . قال الفراء : هي لغة قديمة . وقال عطاء وقتادة : الفوم كل حب يختبز .
مسألة : اختلف العلماء في أكل البصل والثوم وما له رائحة كريهة من سائر البقول ، فذهب جمهور العلماء إلى إباحة ذلك ، للأحاديث الثابتة في ذلك وذهبت طائفة من أهل الظاهر القائلين بوجوب الصلاة في الجماعة فرضا إلى المنع ، وقالوا : كل ما منع من إتيان الفرض والقيام به فحرام عمله والتشاغل به . واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها خبيثة ، والله عز وجل قد وصف نبيه عليه السلام بأنه يحرم الخبائث . ومن الحجة للجمهور ما ثبت عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي ببدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحا ، قال : فأخبر بما فيها من البقول ، فقال ( قربوها ) إلى بعض أصحابه كان معه ، فلما رآه كره أكلها ، قال : كل فإني أناجي من لا تناجي . أخرجه مسلم وأبو داود . فهذا بين في الخصوص له والإباحة لغيره . وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل على أبي أيوب ، فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فيه ثوم ، فلما رد إليه سأل عن موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : لم يأكل ففزع وصعد إليه فقال : أحرام هو ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا ولكني أكرهه ) . قال فإني أكره ما تكره أو ما كرهت ، قال : وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى ( يعني يأتيه الوحي ) فهذا نص على عدم التحريم . وكذلك ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أكلوا الثوم زمن خيبر وفتحها : أيها الناس ، إنه ليس لي تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها فهذه الأحاديث تشعر بأن الحكم خاص به ، إذ هو المخصوص بمناجاة الملك . لكن قد علمنا هذا الحكم في حديثجابر بما يقتضي التسوية بينه وبين غيره في هذا الحكم حيث قال : من أكل من هذه البقلة الثوم ، وقال مرة من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا ؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث فيه طول : إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين ، هذا البصل والثوم . ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع ، فمن أكلهما فليمتهما طبخا . خرجه مسلم .
قوله تعالى : وعدسها وبصلها العدس معروف . والعدسة : بثرة تخرج بالإنسان ، وربما قتلت وعدس : زجر للبغال ، قال [ يزيد بن مفرغ ] :
عدس ما لعباد عليك إمارة نجوت وهذا تحملين طليق
والعدس : شدة الوطء ، والكدح أيضا ، يقال : عدسه . وعدس في الأرض : ذهب فيها . وعدست إليه المنية أي : سارت ، قال الكميت :
أكلفها هول الظلام ولم أزل أخا الليل معدوسا إلي وعادسا
أي : يسار إلي بالليل . وعدس : لغة في حدس ، قاله الجوهري . ويؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث علي أنه قال : عليكم بالعدس فإنه مبارك مقدس ، وإنه يرق القلب ويكثر الدمعة ، فإنه بارك فيه سبعون نبيا آخرهم عيسى ابن مريم ، ذكره الثعلبي وغيره . وكان عمر بن عبد العزيز يأكل يوما خبزا بزيت ، ويوما بلحم ، ويوما بعدس . قال الحليمي : والعدس والزيت طعام الصالحين ، ولو لم يكن له فضيلة إلا أنه ضيافة إبراهيم عليه السلام في مدينته لا تخلو منه لكان فيه كفاية . وهو مما يخفف البدن فيخف للعبادة ، لا تثور منه الشهوات كما تثور من اللحم . والحنطة من جملة الحبوب ، وهي الفوم على الصحيح ، والشعير قريب منها وكان طعام أهل المدينة ، كما كان العدس من طعام قرية إبراهيم عليه السلام ، فصار لكل واحد من الحبتين بأحد النبيين عليهما السلام فضيلة ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشبع هو وأهله من خبز بر ثلاثة أيام متتابعة منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله عز وجل
قوله تعالى : قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير الاستبدال : وضع الشيء موضع الآخر ، ومنه البدل ، وقد تقدم . وأدنى مأخوذ عند الزجاج من الدنو أي : القرب في القيمة ، من قولهم : ثوب مقارب ، أي : قليل الثمن . وقال علي بن سليمان : هو مهموز من الدنيء البين الدناءة بمعنى الأخس ، إلا أنه خفف همزته . وقيل : هو مأخوذ من الدون أي : الأحط ، فأصله أدون ، أفعل ، قلب فجاء أفلع ، وحولت الواو ألفا لتطرفها . وقرئ في الشواذ أدنى . ومعنى الآية : أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل الذي هو أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير .
واختلف في الوجوه التي توجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه وهي خمسة :
الأول : أن البقول لما كانت لا خطر لها بالنسبة إلى المن والسلوى كانا أفضل ، قاله الزجاج .
الثاني : لما كان المن والسلوى طعاما من الله به عليهم وأمرهم بأكله وكان في استدامة أمر الله وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة ، والذي طلبوه عار من هذه الخصائل - كان أدنى في هذا الوجه .
الثالث : لما كان ما من الله به عليهم أطيب وألذ من الذي سألوه ، كان ما سألوه أدنى من هذا الوجه لا محالة .
الرابع : لما كان ما أعطوا لا كلفة فيه ولا تعب ، والذي طلبوه لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب - كان أدنى .
الخامس : لما كان ما ينزل عليهم لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله ، والحبوب والأرض يتخللها البيوع والغصوب وتدخلها الشبه ، كانت أدنى من هذا الوجه .
مسألة : في هذه الآية دليل على جواز أكل الطيبات والمطاعم المستلذات ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل ، ويشرب الماء البارد العذب ، وسيأتي هذا المعنى في " المائدة " و " النحل " إن شاء الله مستوفى .
قوله تعالى : اهبطوا مصرا تقدم معنى الهبوط ، وهذا أمر معناه التعجيز ، كقوله تعالى : قل كونوا حجارة أو حديدا لأنهم كانوا في التيه وهذا عقوبة لهم . وقيل : إنهم أعطوا ما طلبوه . و " مصرا " - بالتنوين منكرا - قراءة الجمهور ، وهو خط المصحف ، قال مجاهد وغيره : فمن صرفها أراد مصرا من الأمصار غير معين . وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله : اهبطوا مصرا قال : مصرا من هذه الأمصار . وقالت طائفة ممن صرفها أيضا : أراد مصر فرعون بعينها . استدل الأولون بما اقتضاه ظاهر القرآن من أمرهم دخول القرية ، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه . واستدل الآخرون بما في القرآن من أن الله أورث بني إسرائيل ديار آل فرعون وآثارهم ، وأجازوا صرفها . قال الأخفش والكسائي : لخفتها وشبهها بهند ودعد ، وأنشد :
لم تتلفع بفضل مئزرها دعد ولم تسق دعد في العلب
فجمع بين اللغتين . وسيبويه والخليل والفراء لا يجيزون هذا ؛ لأنك لو سميت امرأة بزيد لم تصرف . وقال غير الأخفش : أراد المكان فصرف . وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وطلحة : " مصر " بترك الصرف . وكذلك هي في مصحف أبي بن كعب وقراءة ابن مسعود . وقالوا : هي مصر فرعون . قال أشهب قال لي مالك : هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون ، ذكره ابن عطية والمصر أصله في اللغة الحد . ومصر الدار : حدودها . قال ابن فارس ويقال : إن أهل هجر يكتبون في شروطهم " اشترى فلان الدار بمصورها " أي : حدودها ، قال عدي :
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا
قوله تعالى : فإن لكم ما سألتم " ما " نصب بإن ، وقرأ ابن وثاب والنخعي سألتم بكسر السين ، يقال : سألت وسلت بغير همز . وهو من ذوات الواو ، بدليل قولهم : يتساولان .
ومعنى وضربت عليهم الذلة والمسكنة أي : ألزموهما وقضي عليهم بهما ، مأخوذ من ضرب القباب ، قال الفرزدق في جرير :
ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل
وضرب الحاكم على اليد ، أي : حمل وألزم . والذلة : الذل والصغار . والمسكنة : الفقر . فلا يوجد يهودي ، وإن كان غنيا خاليا من زي الفقر وخضوعه ومهانته . وقيل : الذلة فرض الجزية عن الحسن وقتادة . والمسكنة الخضوع ، وهي مأخوذة من السكون ، أي : قلل الفقر حركته ، قاله الزجاج . وقال أبو عبيدة : الذلة الصغار . والمسكنة مصدر المسكين . وروى الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس : وضربت عليهم الذلة والمسكنة قال : هم أصحاب القبالات .
قوله تعالى : وباءوا أي : انقلبوا ورجعوا ، أي : لزمهم ذلك . ومنه قوله عليه السلام في دعائه ومناجاته : ( أبوء بنعمتك علي ) أي : أقر بها وألزمها نفسي . وأصله في اللغة : الرجوع ، يقال : باء بكذا ، أي : رجع به ، وباء إلى المباءة وهي المنزل أي : رجع . والبواء : الرجوع بالقود . وهم في هذا الأمر بواء ، أي : سواء ، يرجعون فيه إلى معنى واحد . وقال الشاعر :
ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي محارمنا لا يبؤؤ الدم بالدم
أي : لا يرجع الدم بالدم في القود . وقال :
فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا
أي : رجعوا ورجعنا . وقد تقدم معنى الغضب في الفاتحة .
قوله تعالى : ذلك ( ذلك ) تعليل . بأنهم كانوا يكفرون أي : يكذبون بآيات الله أي : بكتابه ومعجزات أنبيائه ، كعيسى ويحيى وزكريا ومحمد عليهم السلام . ويقتلون النبيين معطوف على يكفرون . وروي عن الحسن " يقتلون " وعنه أيضا كالجماعة . وقرأ نافع " النبيئين " بالهمز حيث وقع في القرآن إلا في موضعين : في سورة الأحزاب : إن وهبت نفسها للنبي إن أراد . و لا تدخلوا بيوت النبي إلا فإنه قرأ بلا مد ولا همز . وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين . وترك الهمز في جميع ذلك الباقون . فأما من همز فهو عنده من أنبأ إذا أخبر ، واسم فاعله منبئ . ويجمع نبيء أنبياء ، وقد جاء في جمع نبي نبآء ، قال العباس بن مرداس السلمي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم :
يا خاتم النبآء إنك مرسل بالحق كل هدى السبيل هداكا
هذا معنى قراءة الهمز . واختلف القائلون بترك الهمز ، فمنهم من اشتق اشتقاق من همز ، ثم سهل الهمز . ومنهم من قال : هو مشتق من نبا ينبو إذا ظهر . فالنبي من النبوة وهو الارتفاع ، فمنزلة النبي رفيعة . والنبي بترك الهمز أيضا الطريق ، فسمي الرسول نبيا لاهتداء الخلق به كالطريق ، قال الشاعر [ أوس بن حجر ] :
لأصبح رتما دقاق الحصى مكان النبي من الكاثب
رتمت الشيء : كسرته ، يقال : رتم أنفه ورثمه ، بالتاء والثاء جميعا . والرتم أيضا المرتوم أي : المكسور . والكاثب اسم جبل . فالأنبياء لنا كالسبل في الأرض . ويروى أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : السلام عليك يا نبيء الله ، وهمز . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لست بنبيء الله - وهمز - ولكني نبي الله ولم يهمز . قال أبو علي : ضعف سند هذا الحديث ، ومما يقوي ضعفه أنه عليه السلام قد أنشده المادح : يا خاتم النبآء . . . ولم يؤثر في ذلك إنكار .
قوله تعالى : بغير الحق تعظيم للشنعة والذنب الذي أتوه .
فإن قيل : هذا دليل على أنه قد يصح أن يقتلوا بالحق ، ومعلوم أن الأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يقتلون به . قيل له : ليس كذلك ، وإنما خرج هذا مخرج الصفة لقتلهم أنه ظلم وليس بحق ، فكان هذا تعظيما للشنعة عليهم ، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق ، ولكن يقتل على الحق ، فصرح قوله : بغير الحق عن شنعة الذنب ووضوحه ، ولم يأت نبي قط بشيء يوجب قتله .
فإن قيل : كيف جاز أن يخلي بين الكافرين وقتل الأنبياء ؟ قيل : ذلك كرامة لهم وزيادة في منازلهم ، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين ، وليس ذلك بخذلان لهم . قال ابن عباس والحسن : لم يقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر .
قوله تعالى : ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ذلك رد على الأول وتأكيد للإشارة إليه . والباء في " بما " باء السبب . قال الأخفش : أي : بعصيانهم . والعصيان : خلاف الطاعة . واعتصت النواة إذا اشتدت . والاعتداء : تجاوز الحد في كل شيء ، وعرف في الظلم والمعاصي .
تفسير الطبري
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا
قد دللنا -فيما مضى قبل- على معنى " الصبر " وأنه كف النفس وحبسها عن الشيء. (46) فإذ كان ذلك كذلك , فمعنى الآية إذا: واذكروا إذا قلتم -يا معشر بني إسرائيل-: لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد - وذلك " الطعام الواحد "، هو ما أخبر الله جل ثناؤه أنه أطعمهموه في تيههم، وهو " السلوى " &; 2-125 &; في قول بعض أهل التأويل , وفي قول وهب بن منبه هو " الخبز النقي مع اللحم " - فاسأل لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من البقل والقثاء ، وما سمى الله مع ذلك، وذكر أنهم سألوه موسى .
* * *
وكان سبب مسألتهم موسى ذلك فيما بلغنا , ما: -
1054 - حدثنا به بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد , عن قتادة قوله: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد) قال: كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام , وأنـزل عليهم المن والسلوى , فملوا ذلك , وذكروا عيشا كان لهم بمصر , فسألوه موسى . فقال الله تعالى: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ .
1055 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله: (لن نصبر على طعام واحد)، قال: ملوا طعامهم , وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه قبل ذلك , قالوا: (ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها) الآية .
1056 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد)، قال: كان طعامهم السلوى , وشرابهم المن , فسألوا ما ذكر , فقيل لهم: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ .
* * *
قال أبو جعفر: وقال قتادة: إنهم لما قدموا الشام فقدوا أطعمتهم التي كانوا يأكلونها , فقالوا: (ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها)، وكانوا قد ظلل عليهم الغمام، وأنـزل عليهم المن والسلوى , فملوا ذلك , وذكروا عيشا كانوا فيه بمصر .
1057 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى &; 2-126 &; قال، سمعت ابن أبي نجيح في قوله عز وجل: (لن نصبر على طعام واحد)، المن والسلوى , فاستبدلوا به البقل وما ذكر معه .
1058 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد بمثله سواء .
1059 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد بمثله .
1060 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي: أُعطوا في التيه ما أُعطوا , فملوا ذلك وقالوا: (يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها) .
1061 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أنبأنا ابن زيد قال: كان طعام بني إسرائيل في التيه واحدا , وشرابهم واحدا. كان شرابهم عسلا ينـزل لهم من السماء يقال له المن , وطعامهم طير يقال له السلوى , يأكلون الطير ويشربون العسل , لم يكونوا يعرفون خبزا ولا غيره . فقالوا: " يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا "، فقرأ حتى بلغ: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ .
* * *
وإنما قال جل ذكره: (يخرج لنا مما تنبت الأرض) - ولم يذكر الذي سألوه أن يدعو ربه ليخرج لهم من الأرض , فيقول: قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا كذا وكذا مما تنبته الأرض من بقلها وقثائها - لأن " من " تأتي بمعنى التبعيض لما بعدها , فاكتفي بها عن ذكر التبعيض , إذ كان معلوما بدخولها معنى ما أريد بالكلام الذي هي فيه. كقول القائل: أصبح اليوم عند فلان من الطعام " يريد شيئا منه.
وقد قال بعضهم: " من " ههنا بمعنى الإلغاء والإسقاط . كأن معنى الكلام &; 2-127 &; عنده: يخرج لنا ما تنبت الأرض من بقلها . واستشهد على ذلك بقول العرب: " ما رأيت من أحد " بمعنى: ما رأيت أحدا , وبقول الله: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ [ البقرة: 271]، وبقولهم: " قد كان من حديث , فخل عني حتى أذهب , يريدون: قد كان حديث .
وقد أنكر من أهل العربية جماعة أن تكون " من " بمعنى الإلغاء في شيء من الكلام , وادعوا أن دخولها في كل موضع دخلت فيه، مؤذن أن المتكلم مريد لبعض ما أدخلت فيه لا جميعه , وأنها لا تدخل في موضع إلا لمعنى مفهوم .
فتأويل الكلام إذا - على ما وصفنا من أمر " من " (47) -: فادع لنا ربك يخرج لنا بعض ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها .
* * *
و " البقل " و " القثاء " و " العدس " و " البصل " , هو ما قد عرفه الناس بينهم من نبات الأرض وحبها .
* * *
وأما " الفوم " , فإن أهل التأويل اختلفوا فيه . فقال بعضهم: هو الحنطة والخبز.
* ذكر من قال ذلك:
1062 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد ومؤمل قالا حدثنا سفيان , عن ابن أبي نجيح , عن عطاء قال: الفوم:، الخبز .
1063 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان , عن ابن جريج , عن عطاء ومجاهد قوله: (وفومها) قالا خبزها .
1064 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو قالا حدثنا أبو عاصم , عن عيسى بن ميمون , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: (وفومها)، قال: الخبز .
1065 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد , عن سعيد , عن قتادة والحسن: الفوم، هو الحب الذي يختبزه الناس .
1066 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة والحسن بمثله .
1067 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين , عن أبي مالك في قوله: (وفومها) قال: الحنطة .
1068 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر عن السدي: (وفومها)، الحنطة.
1069 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم , عن يونس , عن الحسن وحصين , عن أبي مالك في قوله: (وفومها)، الحنطة.
1070 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر الرازي , عن قتادة قال: الفوم، الحب الذي يختبز الناس منه .
1071 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج قال، قال لى عطاء بن أبي رياح قوله: (وفومها)، قال: خبزها، قالها مجاهد .
1072 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال لي ابن زيد: الفوم، الخبز.
1073 - حدثني يحيى بن عثمان السهمي قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس في قوله: (وفومها) يقول: الحنطة والخبز .
1074 - حُدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس في قوله: (وفومها) قال: هو البر بعينه، الحنطة.
1075 - حدثنا علي بن الحسن قال، حدثنا مسلم الجرمي قال، حدثنا عيسى بن يونس , عن رشدين بن كريب , عن أبيه , عن ابن عباس في قول الله عز وجل: (وفومها) قال: الفوم، الحنطة بلسان بني هاشم . (48)
1076 - حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا عبد العزيز بن منصور , عن نافع بن أبي نعيم، أن عبد الله بن عباس سئل عن قول الله: (وفومها)، قال: الحنطة، أما سمعت قول أُحَيْحة بن الجُلاح وهو يقول:
قـد كـنت أغنـى الناس شخصا واحدا
وَرَد المدينــة عــن زراعـة فـوم (49)
* * *
وقال آخرون: هو الثوم .
* ذكر من قال ذلك:
1077 - حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك , عن ليث , عن مجاهد قال: هو هذا الثوم .
1078 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قال: الفوم، الثوم .
* * *
وهو في بعض القراءات " وثومها " .
* * *
وقد ذكر أن تسمية الحنطة والخبز جميعا " فوما " من اللغة القديمة . حكي سماعا من أهل هذه اللغة: " فوموا لنا " , بمعنى اختبزوا لنا .
* * *
وذكر أن ذلك قراءة عبد الله بن مسعود: " وثومها " بالثاء . (50) فإن كان ذلك صحيحا، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم: " وقعوا في عاثور شر: وعافور شر " وكقولهم "" للأثافي، أثاثي؛ وللمغافير، مغاثير وما أشبه ذلك مما تقلب الثاء فاء والفاء ثاء، لتقارب مخرج الفاء من مخرج الثاء. و " المغافير " شبيه بالشيء الحلو، يشبه بالعسل، ينـزل من السماء حلوا، يقع على الشجر ونحوها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ
يعني بقوله: (قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)، قال: لهم موسى: أتأخذون الذي هو أخس خطرا وقيمة وقدرا من العيش , بدلا بالذي هو خير منه خطرا وقيمة وقدرا؟ وذلك كان استبدالهم .
* * *
وأصل " الاستبدال ": هو ترك شيء لآخر غيره مكان المتروك .
* * *
ومعنى قوله: (أدنى) أخس وأوضع وأصغر قدرا وخطرا . وأصله من قولهم: " هذا رجل دني بين الدناءة " و " إنه ليدنِّي في الأمور " بغير همز، إذا كان يتتبع خسيسها . وقد ذكر الهمز عن بعض العرب في ذلك، سماعا منهم . يقولون: ما كنتَ دانئا، ولقد دنأتَ ، (51) وأنشدني بعض أصحابنا عن غيره، أنه سمع بعض بني كلاب ينشد بيت الأعشى (52)
&; 2-131 &;
باســــلةُ الـــوقعِ ســـرابيلها
بيــض إلــى دانِئِهــا الظــاهر (53)
بهمز الدانئ , وأنه سمعهم يقولون: " إنه لدانئ خبيث " بالهمز . (54) فإن كان ذلك عنهم صحيحا , فالهمز فيه لغة، وتركه أخرى .
* * *
ولا شك أن من استبدل بالمن والسلوى البقل والقثاء والعدس والبصل والثوم , فقد استبدل الوضيع من العيش بالرفيع منه .
* * *
وقد تأول بعضهم قوله: (الذي هو أدنى) بمعنى: الذي هو أقرب , ووجه قوله: (أدنى)، إلى أنه أفعل من " الدنو " الذي هو بمعنى القرب .
* * *
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (الذي هو أدنى) قاله عدد من أهل التأويل في تأويله .
* ذكر من قال ذلك:
1079 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع , عن سعيد , عن قتادة قال: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)، يقول: أتستبدلون الذي هو شر بالذي هو خير منه .
1080 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج &; 2-132 &; عن ابن جريج , عن مجاهد قوله: (الذي هو أدنى) قال: أردأ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ
وتأويل ذلك: فدعا موسى، فاستجبنا له , فقلنا لهم: " اهبطوا مصرا " ، وهو من المحذوف الذي اجتزئ بدلالة ظاهره على ذكر ما حذف وترك منه .
* * *
وقد دللنا -فيما مضى- على أن معنى " الهبوط" إلى المكان، إنما هو النـزول إليه والحلول به . (55)
* * *
فتأويل الآية إذا: وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها. قال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أخس وأردأ من العيش، بالذي هو خير منه. فدعا لهم موسى ربه أن يعطيهم ما سألوه , فاستجاب الله له دعاءه , فأعطاهم ما طلبوا , وقال الله لهم: (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) .
* * *
ثم اختلف القَرَأَة في قراءة قوله (56) (مصرا) فقرأه عامة القَرَأَة: " مصرا " بتنوين " المصر " وإجرائه. وقرأه بعضهم بترك التنوين وحذف الألف منه . فأما الذين نونوه وأجروه , فإنهم عنوا به مصرا من الأمصار، لا مصرا بعينه . فتأويله -على قراءتهم-: اهبطوا مصرا من الأمصار , لأنكم في البدو , والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي , وإنما يكون في القرى والأمصار , فإن لكم -إذا هبطتموه- ما سألتم من العيش . وقد يجوز أن يكون بعض من قرأ ذلك &; 2-133 &; بالإجراء والتنوين , كان تأويل الكلام عنده: " اهبطوا مصرا " البلدة التي تعرف بهذا الاسم، وهي" مصر " التي خرجوا عنها . غير أنه أجراها ونونها اتباعا منه خط المصحف , لأن في المصحف ألفا ثابتة في" مصر " , فيكون سبيل قراءته ذلك بالإجراء والتنوين، سبيل من قرأ: قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ [ الإنسان: 15-16] منونة اتباعا منه خط المصحف . وأما الذي لم ينون مصر فإنه لا شك أنه عنى " مصر " التي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها. (57)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك، نظير اختلاف القَرَأَة في قراءته .
1081 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع , عن سعيد , عن قتادة: (اهبطوا مصرا)، أي مصرا من الأمصار، فإن لكم ما سألتم.
1082 - وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي: (اهبطوا مصرا) من الأمصار , فإن لكم ما سألتم. فلما خرجوا من التيه، رفع المن والسلوى وأكلوا البقول .
1083 - وحدثني المثنى قال، حدثني آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن قتادة في قوله: (اهبطوا مصرا) قال: يعني مصرا من الأمصار .
1084 - وحدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد: (اهبطوا مصرا) قال: مصرا من الأمصار . زعموا أنهم لم يرجعوا إلى مصر.
1085- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (اهبطوا مصرا)، قال: مصرا من الأمصار . و " مصر " لا تُجْرَى في الكلام. فقيل: أي مصر. فقال: الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، وقرأ قول الله جل ثناؤه: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 21].
* * *
&; 2-134 &;
وقال آخرون: هي مصر التي كان فيها فرعون.
* ذكر من قال ذلك:
1086 - حدثني المثنى، حدثنا آدم , حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: (اهبطوا مصرا) قال: يعني به مصر فرعون .
1087 - حدثنا عن عمار بن الحسن , عن ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع مثله .
* * *
ومن حجة من قال إن الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله: (اهبطوا مصرا)، مصرا من الأمصار دون " مصر " فرعون بعينها -: أن الله جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر . وإنما ابتلاهم بالتيه بامتناعهم على موسى في حرب الجبابرة، إذ قال لهم: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة: 21-24]، فحرم الله جل وعز على قائلي ذلك -فيما ذكر لنا- دخولها حتى هلكوا في التيه. وابتلاهم بالتيهان في الأرض أربعين سنة , ثم أهبط ذريتهم الشأم , فأسكنهم الأرض المقدسة , وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع يوشع بن نون - بعد وفاة موسى بن عمران . فرأينا الله جل وعز قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة، ولم يخبرنا عنهم أنه ردهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها , فيجوز لنا أن نقرأ: " اهبطوا مصر " , ونتأوله أنه ردهم إليها .
قالوا: فإن احتج محتج بقول الله جل ثناؤه: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [ الشعراء: 57-59] قيل لهم: (58) فإن الله جل ثناؤه إنما أورثهم ذلك، فملكهم إياها ولم يردهم إليها , وجعل مساكنهم الشأم .
* * *
وأما الذين قالوا: إن الله إنما عنى بقوله جل وعز: (اهبطوا مصرَ) مصرَ ؛ فإن من حجتهم التي احتجوا بها الآية التي قال فيها: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [ الشعراء: 57-59] وقوله: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [ الدخان: 25-28]، قالوا: فأخبر الله جل ثناؤه أنه قد ورثهم ذلك وجعلها لهم , فلم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها . قالوا: ولا يكونون منتفعين بها إلا بمصير بعضهم إليها , وإلا فلا وجه للانتفاع بها، إن لم يصيروا، أو يصر بعضهم إليها . قالوا: (59) وأخرى، أنها في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود: " اهبطوا مصر " بغير ألف . قالوا: ففي ذلك الدلالة البينة أنها " مصر " بعينها .
* * *
قال أبوجعفر: والذي نقول به في ذلك أنه لا دلالة في كتاب الله على الصواب من هذين التأويلين , ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر. وأهل التأويل متنازعون تأويله ، فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: (60) إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض - على ما بينه الله جل وعز في كتابه - وهم في الأرض تائهون , فاستجاب الله لموسى دعاءه , وأمره أن يهبط بمن معه من قومه &; 2-136 &; قرارا من الأرض التي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك , إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلا القرى والأمصار، وأنه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إليه. وجائز أن يكون ذلك القرار " مصر "، وجائز أن يكون " الشأم " .
فأما القراءة فإنها بالألف والتنوين: (اهبطوا مصرا) وهي القراءة التي لا يجوز عندي غيرها، لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين , واتفاق قراءة القَرَأَة على ذلك . ولم يقرأ بترك التنوين فيه وإسقاط الألف منه، إلا من لا يجوز الاعتراض به على الحجة، (61) فيما جاءت به من القراءة مستفيضا بينهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ
قال أبو جعفر: يعنى بقوله: (وضربت) أي فرضت . ووضعت عليهم الذلة وألزموها . من قول القائل: " ضرب الإمام الجزية على أهل الذمة " و " ضرب الرجل على عبده الخراج " يعني بذلك وضعه فألزمه إياه , ومن قولهم: " ضرب الأمير على الجيش البعث " , يراد به: ألزمهموه . (62)
* * *
وأما " الذلة " فهي" الفعلة " من قول القائل: ذل فلان يذل ذلا وذلة ، كـ " الصغرة " من " صغُر الأمر " , و " القِعدة " من " قعد ". (63)
و " الذلة " هي الصغار الذي أمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن لا يعطوهم أمانا على القرار على ما هم عليه من كفرهم به وبرسوله - إلا أن يبذلوا الجزية عليه لهم , فقال عز وجل: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ &; 2-137 &; [ التوبة: 29] كما:-
1088 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن الحسن وقتادة في قوله: (وضربت عليهم الذلة)، قالا يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون .
* * *
وأما " المسكنة " فإنها مصدر " المسكين " . يقال: " ما فيهم أسكن من فلان " (64) و " ما كان مسكينا " و " لقد تمسكن مسكنة ". ومن العرب من يقول: " تمسكن تمسكنا ". و " المسكنة " في هذا الموضع مسكنة الفاقة والحاجة , وهي خشوعها وذلها ، كما:-
1089 - حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: (والمسكنة) قال: الفاقة.
1090 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي قوله: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة)، قال: الفقر.
1091 - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة)، قال: هؤلاء يهود بني إسرائيل . قلت له: هم قبط مصر؟ قال: وما لقبط مصر وهذا، لا والله ما هم هم , ولكنهم اليهود، يهود بني إسرائيل.
* * *
فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه يبدلهم بالعز ذلا وبالنعمة بؤسا , وبالرضا عنهم غضبا , جزاء منه لهم على كفرهم بآياته، وقتلهم أنبياءه ورسله، اعتداء وظلما منهم بغير حق , وعصيانهم له , وخلافا عليه .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وباءوا بغضب من الله)، انصرفوا ورجعوا . ولا يقال " باؤوا " إلا موصولا إما بخير، وإما بشر . يقال منه: " باء فلان بذنبه يبوء به بوءا وبواء " . ومنه قول الله عز وجل إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [ المائدة : 29] يعني: تنصرف متحملهما وترجع بهما، قد صارا عليك دوني .
* * *
فمعنى الكلام إذا: ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله , قد صار عليهم من الله غضب , ووجب عليهم منه سخط . كما:-
1092 - حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع في قوله: (وباؤوا بغضب من الله) فحدث عليهم غضب من الله .
1093 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر , عن الضحاك في قوله: (وباؤوا بغضب من الله) قال: استحقوا الغضب من الله .
* * *
وقدمنا معنى غضب الله على عبده فيما مضى من كتابنا هذا , فأغنى عن إعادته في هذا الموضع . (65)
* * *
&; 2-139 &;
القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: " ذلك " ضرب الذلة والمسكنة عليهم , وإحلاله غضبه بهم . فدل بقوله: " ذلك " - وهي يعني به ما وصفنا - على أن قول القائل: " ذلك " يشمل المعاني الكثيرة إذا أشير به إليها.
* * *
ويعني بقوله: (بأنهم كانوا يكفرون) ، من أجل أنهم كانوا يكفرون . يقول: فعلنا بهم -من إحلال الذل والمسكنة والسخط بهم- من أجل أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق , كما قال أعشى بني ثعلبة:
مليكيـــةٌ جَـــاوَرَتْ بالحجـــا
ز قومـــا عـــداة وأرضــا شــطيرا (66)
بمــا قــد تَــرَبَّع روض القطـا
وروض التنــاضِب حــتى تصــــيرا (67)
يعني بذلك: جاورت بهذا المكان، هذه المرأة، قوما عداة وأرضا بعيدة من أهله - لمكان قربها كان منه ومن قومه وبلده - (68) من تربعها روض القطا وروض التناضب . فكذلك قوله: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) يقول: كان ذلك منا بكفرهم بآياتنا , وجزاء لهم بقتلهم أنبياءنا .
* * *
وقد بينا فيما مضى من كتابنا أن معنى " الكفر ": تغطية الشيء وستره، (69) وأن "آيات الله " حججه وأعلامه وأدلته على توحيده وصدق رسله . (70)
فمعنى الكلام إذا: فعلنا بهم ذلك، من أجل أنهم كانوا يجحدون حجج الله على توحيده وتصديق رسله، ويدفعون حقيتها , ويكذبون بها.
* * *
ويعني بقوله: (ويقتلون النبيين بغير الحق) : ويقتلون رسل الله الذين ابتعثهم -لإنباء ما أرسلهم به عنه- لمن أرسلوا إليه.
* * *
وهم جماع، وأحدهم " نبي" , غير مهموز , وأصله الهمز , لأنه من " أنبأ عن الله فهو ينبئ عنه إنباء "، وإنما الاسم منه،" منبئ" ولكنه صرف وهو " مفعل " إلى " فعيل " , كما صرف " سميع " إلى " فعيل " من " مسمع " , و " بصير " من " مبصر " , وأشباه ذلك , (71) وأبدل مكان الهمزة من " النبيء " الياء , فقيل: " نبي" . هذا ويجمع " النبي" أيضا على " أنبياء " , وإنما جمعوه كذلك، لإلحاقهم " النبيء "، بإبدال الهمزة منه ياء، بالنعوت التي تأتي على تقدير " فعيل " من ذوات الياء والواو . وذلك أنهم إذا جمعوا ما كان من النعوت على تقدير " فعيل " من ذوات الياء والواو، جمعوه على " أفعلاء " كقولهم: " ولي وأولياء " ، و " وصي وأوصياء " &; 2-141 &; ، و " دعى وأدعياء " . ولو جمعوه على أصله الذي هو أصله ، وعلى أن الواحد " نبيء " مهموز، لجمعوه على " فعلاء " , فقيل لهم " النبآء " , على مثال " النبهاء " , (72) لأن ذلك جمع ما كان على فعيل من غير ذوات الياء والواو من النعوت، كجمعهم الشريك شركاء , والعليم علماء ، والحكيم حكماء , وما أشبه ذلك . وقد حكي سماعا من العرب في جمع " النبي"" النبآء " , وذلك من لغة الذين يهمزون " النبيء " , ثم يجمعونه على " النبآء " - على ما قد بينت . ومن ذلك قول عباس بن مرداس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم .
يــا خــاتم النبـآء إنـك مرسـل
بـــالخير كـــلُّ هــدى الســبيل هداكــا (73)
فقال : " يا خاتم النبآء " , على أن واحدهم " نبيء " مهموز . وقد قال بعضهم: (74) " النبي" و " النبوة " غير مهموز ، لأنهما مأخوذان من " النَّبْوَة " , وهي مثل " النَّجْوَة " , وهو المكان المرتفع ، وكان يقول: إن أصل " النبي" الطريق , ويستشهد على ذلك ببيت القطامي:
لمــا وردن نَبِيَّــا واســتَتَبّ بهـا
مُسْــحَنْفِر كخـطوط السَّـيْح مُنْسَـحِل (75)
&; 2-142 &;
يقول: إنما سمى الطريق " نبيا " , لأنه ظاهر مستبين، من " النَّبوة " . ويقول: لم أسمع أحدا يهمز " النبي" . قال . وقد ذكرنا ما في ذلك، وبينا ما فيه الكفاية إن شاء الله.
* * *
ويعني بقوله: (ويقتلون النبيين بغير الحق ) ، أنهم كانوا يقتلون رسل الله، بغير إذن الله لهم بقتلهم، منكرين رسالتهم، جاحدين نبوتهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
وقوله: (ذلك)، رد على ذَلِكَ الأولى. ومعنى الكلام: وضربت عليهم الذلة والمسكنة, وباؤوا بغضب من الله من أجل كفرهم بآيات الله, وقتلهم النبيين بغير الحق, من أجل عصيانهم ربهم , واعتدائهم حدوده، فقال جل ثناؤه.(ذلك بما عصوا)، والمعنى: ذلك بعصيانهم وكفرهم معتدين.
* * *
و " الاعتداء "، تجاوز الحد الذي حده الله لعباده إلى غيره. وكل متجاوز حد شيء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه. ومعنى الكلام: فعلت بهم ما فعلت من ذلك، بما عصوا أمري, وتجاوزوا حدي إلى ما نهيتهم عنه.
* * *
---------------------------
الهوامش :
(46) انظر ما مضى في هذا الجزء 2 : 11
(47) في المطبوعة : "على ما وصفنا من أمر من ذكرنا" ، و"ذكرنا" زائدة ولا شك ، كما تبين من سياق كلامه السالف والآتي .
(48) الحديث : 1075 - مسلم الجرمي : سبق أن رجحنا في : 154 ، 649 ، 846 أنه"الجرمي" بالجيم . وقد ثبت هنا في المطبوعة بالجيم على ما رجحنا . رشدين - بكسر الراء وسكون الشين المعجمعة وكسر الدال المهملة - بن كريب : ضعيف ، بينا القول في ضعفه في شرح المسند : 2571 . وأبوه ، كريب بن أبي مسلم : تابعي ثقة .
(49) الحديث: 1076 - عبد الرحمن بن عبد الحكم المصري: ثقة، كان من أهل الحديث عالما بالتواريخ، صنف تاريخ مصر وغيره، كما في التهذيب، مات سنة 257. وهو مؤلف كتاب (فتوح مصر) المطبوع في أوربة. شيخه عبد العزيز بن منصور: لم أجد له ذكرا فيما بين يدي من المراجع، إلا في فتوح مصر، ص 40 س 7 - 8 قال ابن عبد الحكم هناك:"حدثنا عبد العزيز بن منصور اليحصبى، عن عاصم بن حكيم.." وشيخه، نافع: هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني، أحد القراء السبعة المعروفين وهو لم يدرك ابن عباس، إنما يروي عن التابعين، وله ترجمة في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 2 / 8، وابن أبي حاتم 4 / 1 /456 - 457، وتاريخ إصبهان لأبي نعيم 2: 326 - 327.
والبيت في اللسان (فوم)، ونسبه لأبي محجن الثقفي، أنشده الأخفش له، وروايته:
قـد كـنت أحسـبني كـأغنى واحـد
نــــــزل المدينـــــة . . .
وفي الروض الأنف 2 : 45 نسبه لأحيحة ، أو لأبي محجن ، ورواه"سكن المدينة" .
(50) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 41
(51) هذا كله من قول الفراء في معاني القرآن 1 : 42 . وكان في المطبوعة"ما كنت دنيا" ، والصواب ما أثبته من كتاب الفراء .
(52) الذي سمع هذا هو الفراء . انظر معاني القرآن له 1 : 42 ، والطبري يجهله دائما
(53) ديوانه : 108 ، وروايته"إلى جانبه الظاهر" . يصف حصنا . قال قبل :
فـــي مجـــدل شــيد بنيانــه
يـــزل عنــه ظفــر الطــائر
يجــمع خــضراء لهــا ســورة
تعصـــف بــالدارع والحاســر
باســــلة الــــوقع . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والضمير في قوله:"سرابيلها" راجع إلى"خضراء" يقال: كتيبة خضراء، وهي التي غلب عليها لبس الحديد وعلاها سواده، والخضرة سواد عندهم. والسرابيل هنا: الدروع، جمع سربال: وهو كل ما لبس كالدرع وغيره. وقال الفراء:"يعني الدروع على خاصتها - يعني الكتيبة - إلى الخسيس منها". كأنه أراد: يلبسون الدروع من شريف إلى خسيس. وأما رواية الديوان: فالضمير في"جانبه"، راجع إلى"المجدل" وهي أبين الروايتين معنى وأصحهما.
(54) في معاني الفراء زيادة بين قوسين من بعض النسخ : [إذا كان ماجنا]
(55) انظر ما مضى 1 : 534 .
(56) في المطبوعة : "الفراء" ، ورددناها إلى الذي جرى عليه لفظ الطبري فيما سلف ، في كل المواضع التي جروا على تبديلها من"قرأة" ، إلى"قراء" .
(57) انظر ما قاله الفراء في معاني القرآن 1 : 42 - 43 .
(58) في المطبوعة : "قيل لهم" ، وهو خطأ . والضمير في"له" راجع إلى قوله : "فإن احتج محتج" .
(59) قوله : "وأخرى" ، أي وحجة أخرى . وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 43
(60) في المطبوعة : "عندنا والصواب" ، وهو سهو ناسخ .
(61) الحجة هنا : الذين يحتج بهم .
(62) البعث : بعث الجند إلى الغزو .
(63) لم أجد فيما بين يدي من الكتب من نص على صِغرة فرة" و"قعدة" مصدر على فعلة مثل : نشد الدابة نِشدة ، ليس للهيئة ، وإن وافقها في الوزن .
(64) قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن : 42 ، وفسره فقال : "أي أفقر منه" .
(65) انظر ما سلف 1 : 188 - 189 .
(66) ديوانه : 67 . مليكية ، منسوبة إلى"المليك" : وهو الملك ، يعني من نبات الملوك . العداة ، جمع عاد ، وهو العدو . الشطير : البعيد ، والغريب ، أراد أنها في أرض مجهولة . وذكره الأرض في هذا البيت . يعني أنها نزلت ديار قوم نشبت العداوة بيننا وبينهم ، في غربة بعيدة . فصرت لا أقدر عليها .
(67) قوله"بما" بمعنى بسبب تربعها وتربع القوم المكان وارتبعوه : أقاموا فيه في زمن الربيع . وروض القطا ، من أشهر رياض العرب ، في أرض الحجاز . وروض التناضب أيضًا بالحجاز عند سرف . وقوله : "حتى تصيرا" ، من قولهم صار الرجل يصير فهو صائر : إذا حضر الماء ، والقوم الذين يحضرون الماء يقال لهم : الصائرة . والصير (بكسر الصاد) الماء الذي يحضره الناس . يقول : اغتربت في غير قومها ، لما دفعها إلى ذلك طلب الربيع والخصب ومساقط الماء في البلاد .
(68) كانت هذه الجملة في المخطوطات والمطبوعة هكذا : "وأرضا بعيدة من أهله بمكان قربها كان منه ومن قومه وبدلا من تربعها . . " ، وهو كلام لا معنى له . وقد جعلت"بمكان" ، "لمكان" و"بدلا" ، "بلده" . فصار لها معنى تطمئن إليه النفس والجملة بين الخطين اعتراض ، وتفسير لقوله : " أرضا بعيدة من أهله" .
(69) انظر ما سلف 1 : 255 .
(70) انظر ما سلف 1 : 552 .
(71) كان في المطبوعة : "مفعل" مكان"مسمع" . وليس يعني بقوله"سميع" ، صفة الله عز وجل ، بل يعني ما جاء في شعر عمرو بن معد يكرب . أَمِــنْ رَيْحَانَــةَ الـدَّاعِي السَّـمِيعُ ?
يُـــؤَرِّقُنِي وَأَصْحَــابِي هُجُــوعُ
أي: الداعي المسمع. وانظر ما سلف 1: 283 .
(72) في المطبعة : "النبعاء" وفي المخطوطات"النبآء" .
(73) من أبيات له في سيرة ابن هشام 4 : 103 وغيرها . والضمير الفاعل في قول"هداكا" ، لله سبحانه وتعالى ، دل عليه ما في قوله"إنك مرسل بالخير" ، فإن الله هو الذي أرسله . وهو مضبوط في أكثر الكتب"كل" بالرفع ، و"هدى" ، و"هداكا" بضم الهاء .
(74) كأنه يريد الكسائي (البحر المحيط 1 : 220) . ووجدت في معجم البلدان 8 : 249"وقال أبو بكر بن الأنباري في"الزاهر" في قول القطامي . . إن النبي في هذا البيت هو الطريق" ، وليس يعنيه أبو جعفر ، فإن أبا بكر قد ولد سنة 271 وتوفى 328 . وقد رد هذا القول أبو القاسم الزجاج - فيما نقل ياقوت - فقال : "كيف يكون ذلك من أسماء الطريق ، وهو يقول : "لما وردن نبيا" ، وقد كانت قبل وروده على الطريق؟ فكأنه قال : "لما وردن طريقا" ، وهذا لا معنى له ، إلا أن يكون أراد طريقا بعينه في مكان مخصوص ، فيرجع إلى أنه اسم مكان بعينه ، قيل : هو رمل بعينه ، وقيل : هو اسم جبل" . وانظر تحقيق ذلك في معجم البلدان ، ومعجم ما استعجم ، وغيرهما .
(75) ديوان : 4 ، في قصيدته الجيدة المشهورة ، والضمير في"وردن" للإبل ذكرها قبل . وروايته"واستتب بنا" . نبي كثيب رمل مرتفع في ديار بني تغلب ، ذكره القطامي في كثير من شعره . واستتب الأمر والطريق : استوى واستقام وتبين واطراد وامتد . مسحنفر ، صفة للطريق : واسع ممتد ذاهب بين . والسبح : ضرب من البرود أو العباء مخطط ، يلبس ، أو يستتر به ويفرش . شبه آثار السير عليها بخطوط البرد . وسجلت الريح الأرض فانسحلت : كشطت ما عليها . ووصف الطريق بذلك ، لأنه قد استتب بالسير وصار لاحبا واضحا .