تفسير ابن كثير

وقوله تعالى : ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره أي : أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين ، فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره ، أي : حتى يطأها زوج آخر في نكاح صحيح ، فلو وطئها واطئ في غير نكاح ، ولو في ملك اليمين لم تحل للأول ; لأنه ليس بزوج ، وهكذا لو تزوجت ، ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول ، واشتهر بين كثير من الفقهاء عن سعيد بن المسيب ، رحمه الله ، أنه يقول : يحصل المقصود من تحليلها للأول بمجرد العقد على الثاني . وفي صحته عنه نظر ، على أن الشيخ أبا عمر بن عبد البر قد حكاه عنه في الاستذكار ، فالله أعلم .

وقد قال أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : حدثنا ابن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن علقمة بن مرثد ، عن سالم بن رزين ، عن سالم بن عبد الله عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة ، فيتزوجها زوج آخر فيطلقها ، قبل أن يدخل بها : أترجع إلى الأول ؟ قال : " لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها " .

هكذا وقع في رواية ابن جرير ، وقد رواه الإمام أحمد فقال :

حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن علقمة بن مرثد ، سمعت سالم بن رزين يحدث عن سالم بن عبد الله ، يعني : ابن عمر ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : في الرجل تكون له المرأة فيطلقها ، ثم يتزوجها رجل فيطلقها قبل أن يدخل بها ، فترجع إلى زوجها الأول ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حتى يذوق العسيلة " .

وهكذا رواه النسائي ، عن عمرو بن علي الفلاس ، وابن ماجه عن محمد بن بشار بندار كلاهما عن محمد بن جعفر غندر ، عن شعبة ، به كذلك . فهذا من رواية سعيد بن المسيب عن ابن عمر مرفوعا ، على خلاف ما يحكى عنه ، فبعيد أن يخالف ما رواه بغير مستند ، والله أعلم .

وقد روى أحمد أيضا ، والنسائي ، وابن جرير هذا الحديث من طريق سفيان الثوري ، عن علقمة بن مرثد ، عن رزين بن سليمان الأحمري ، عن ابن عمر قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا فيتزوجها آخر ، فيغلق الباب ويرخي الستر ثم يطلقها ، قبل أن يدخل بها : هل تحل للأول ؟ قال : " لا حتى يذوق العسيلة " .

وهذا لفظ أحمد ، وفي رواية لأحمد : سليمان بن رزين .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا محمد بن دينار ، حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي ، عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثلاثا فتزوجت بعده رجلا فطلقها قبل أن يدخل بها : أتحل لزوجها الأول ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حتى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته " .

ورواه ابن جرير ، عن محمد بن إبراهيم الأنماطي ، عن هشام بن عبد الملك ، حدثنا محمد بن دينار ، فذكره .

قلت : ومحمد بن دينار بن صندل أبو بكر الأزدي ثم الطاحي البصري ، ويقال له : ابن أبي الفرات : اختلفوا فيه ، فمنهم من ضعفه ، ومنهم من قواه وقبله وحسن له . وقال أبو داود : أنه تغير قبل موته ، فالله أعلم .

حديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني ، حدثنا أبي ، حدثنا شيبان ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن أبي الحارث الغفاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة يطلقها زوجها ثلاثا فتتزوج زوجا غيره ، فيطلقها قبل أن يدخل بها ، فيريد الأول أن يراجعها ، قال : " لا حتى يذوق الآخر عسيلتها " .

ثم رواه من وجه آخر عن شيبان ، وهو ابن عبد الرحمن ، به . وأبو الحارث غير معروف .

حديث آخر : قال ابن جرير :

حدثنا ابن مثنى ، حدثنا يحيى ، عن عبيد الله ، حدثنا القاسم ، عن عائشة : أن رجلا طلق امرأته ثلاثا ، فتزوجت زوجا فطلقها قبل أن يمسها ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتحل للأول ؟ فقال : " لا حتى يذوق من عسيلتها كما ذاق الأول " .

أخرجه البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، من طرق ، عن عبيد الله بن عمر العمري ، عن القاسم بن عبد الرحمن بن أبي بكر ، عن عمته عائشة ، به .

طريق أخرى : قال ابن جرير :

حدثنا عبيد الله بن إسماعيل الهباري ، وسفيان بن وكيع ، وأبو هشام الرفاعي قالوا : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ، فتزوجت رجلا غيره ، فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها : أتحل لزوجها الأول ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحل لزوجها الأول حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته " .

وكذا رواه أبو داود عن مسدد ، والنسائي عن أبي كريب ، كلاهما عن أبي معاوية ، وهو محمد بن خازم الضرير ، به .

طريق أخرى : قال مسلم في صحيحه :

حدثنا محمد بن العلاء الهمداني ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها ، فتتزوج رجلا فيطلقها قبل أن يدخل بها : أتحل لزوجها الأول ؟ قال : " لا حتى يذوق عسيلتها " .

قال مسلم : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا ابن فضيل : وحدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو معاوية جميعا ، عن هشام بهذا الإسناد .

وقد رواه البخاري من طريق أبي معاوية محمد بن حازم ، عن هشام به . وتفرد به مسلم من الوجهين الآخرين . وهكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الله بن المبارك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة مرفوعا بنحوه أو مثله . وهذا إسناد جيد . وكذا رواه ابن جرير أيضا ، من طريق علي بن زيد بن جدعان ، عن امرأة أبيه أمينة أم محمد عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله . وهذا السياق مختصر من الحديث الذي رواه البخاري : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى ، عن هشام ، حدثني أبي ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وحدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا عبدة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها ، فتزوجت آخر فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرت له أنه لا يأتيها ، وأنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب فقال : " لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " .

تفرد به من هذين الوجهين .

طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : دخلت امرأة رفاعة القرظي وأنا وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن رفاعة طلقني البتة ، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني ، وإنما عنده مثل الهدبة ، وأخذت هدبة من جلبابها ، وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له ، فقال : يا أبا بكر ، ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ، لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " .

وهكذا رواه البخاري من حديث عبد الله بن المبارك ، ومسلم من حديث عبد الرزاق ، والنسائي من حديث يزيد بن زريع ، ثلاثتهم عن معمر به . وفي حديث عبد الرزاق عند مسلم : أن رفاعة طلقها آخر ثلاث تطليقات . وقد رواه الجماعة إلا أبا داود من طريق سفيان بن عيينة ، والبخاري من طريق عقيل ، ومسلم من طريق يونس بن يزيد [ وعنده ثلاث تطليقات ، والنسائي من طريق أيوب بن موسى ، ورواه صالح بن أبي الأخضر ] كلهم عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، به .

وقال مالك عن المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير : أن رفاعة بن سموال طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ، فنكحت عبد الرحمن بن الزبير ، فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ، ففارقها ، فأراد رفاعة أن ينكحها ، وهو زوجها الأول الذي كان طلقها ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهاه عن تزويجها ، وقال : " لا تحل لك حتى تذوق العسيلة " كذا رواه أصحاب الموطأ عن مالك وفيه انقطاع . وقد رواه إبراهيم بن طهمان ، وعبد الله بن وهب ، عن مالك ، عن رفاعة ، عن الزبير بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، فوصله .

فصل

والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغبا في المرأة ، قاصدا لدوام عشرتها ، كما هو المشروع من التزويج ، واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطئا مباحا ، فلو وطئها وهي محرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائض أو نفساء أو والزوج صائم أو محرم أو معتكف ، لم تحل للأول بهذا الوطء . وكذا لو كان الزوج الثاني ذميا لم تحل للمسلم بنكاحه ; لأن أنكحة الكفار باطلة عنده . واشترط الحسن البصري فيما حكاه عنه الشيخ أبو عمر بن عبد البر أن ينزل الزوج الثاني ، وكأنه تمسك بما فهمه من قوله عليه السلام : " حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " ، ويلزم على هذا أن تنزل المرأة أيضا . وليس المراد بالعسيلة المني لما رواه الإمام أحمد والنسائي ، عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا إن العسيلة الجماع " فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول ، فهذا هو المحلل الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه ، ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة .

ذكر الأحاديث الواردة في ذلك

الحديث الأول : عن ابن مسعود . قال الإمام أحمد :

حدثنا الفضل بن دكين ، حدثنا سفيان ، عن أبي قيس ، عن الهذيل ، عن عبد الله قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة ، والواصلة والمستوصلة ، والمحلل والمحلل له ، وآكل الربا وموكله .

ثم رواه أحمد ، والترمذي ، والنسائي من غير وجه ، عن سفيان ، وهو الثوري ، عن أبي قيس واسمه عبد الرحمن بن ثروان الأودي ، عن هزيل بن شرحبيل الأودي ، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم به . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . قال : والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة ، منهم : عمر ، وعثمان ، وابن عمر . وهو قول الفقهاء من التابعين ، ويروى ذلك عن علي ، وابن مسعود ، وابن عباس .

طريق أخرى : عن ابن مسعود . قال الإمام أحمد : حدثنا زكريا بن عدي ، حدثنا عبيد الله ، عن عبد الكريم ، عن أبي الواصل ، عن ابن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله المحلل والمحلل له " .

طريق أخرى : روى الإمام أحمد ، والنسائي ، من حديث الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن الحارث الأعور ، عن عبد الله بن مسعود قال : آكل الربا وموكله ، وشاهداه وكاتبه إذا علموا به ، والواصلة ، والمستوصلة ، ولاوي الصدقة ، والمتعدي فيها ، والمرتد على عقبيه إعراضا بعد هجرته ، والمحلل والمحلل له ، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة .

الحديث الثاني : عن علي رضي الله عنه . قال الإمام أحمد :

حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن جابر [ وهو ابن يزيد الجعفي ] عن الشعبي ، عن الحارث ، عن علي قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله ، وشاهديه وكاتبه ، والواشمة والمستوشمة للحسن ، ومانع الصدقة ، والمحلل ، والمحلل له ، وكان ينهى عن النوح .

وكذا رواه عن غندر ، عن شعبة ، عن جابر ، وهو ابن يزيد الجعفي ، عن الشعبي عن الحارث ، عن علي ، به .

وكذا رواه من حديث إسماعيل بن أبي خالد ، وحصين بن عبد الرحمن ، ومجالد بن سعيد ، وابن عون ، عن عامر الشعبي ، به .

وقد رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه من حديث الشعبي ، به . ثم قال أحمد :

حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الربا ، وآكله ، وكاتبه ، وشاهده ، والمحلل ، والمحلل له .

الحديث الثالث : عن جابر : قال الترمذي :

حدثنا أبو سعيد الأشج ، أخبرنا أشعث بن عبد الرحمن بن زبيد اليامي ، حدثنا مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله وعن الحارث ، عن علي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المحلل والمحلل له ثم قال : وليس إسناده بالقائم ، ومجالد ضعفه غير واحد من أهل العلم ، منهم أحمد بن حنبل . قال : ورواه ابن نمير ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله ، عن علي . قال : وهذا وهم من ابن نمير ، والحديث الأول أصح .

الحديث الرابع : عن عقبة بن عامر : قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه :

حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري ، حدثنا أبي ، سمعت الليث بن سعد يقول : قال أبو مصعب مشرح هو : ابن عاهان ، قال عقبة بن عامر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله . قال : " هو المحلل ، لعن الله المحلل والمحلل له " .

تفرد به ابن ماجه . وكذا رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ، عن عثمان بن صالح ، عن الليث ، به ، ثم قال : كانوا ينكرون على عثمان في هذا الحديث إنكارا شديدا .

قلت : عثمان هذا أحد الثقات ، روى عنه البخاري في صحيحه . ثم قد تابعه غيره ، فرواه جعفر الفريابي عن العباس المعروف بابن فريق عن أبي صالح عبد الله بن صالح ، عن الليث به ، فبرئ من عهدته والله أعلم .

الحديث الخامس : عن ابن عباس . قال ابن ماجه :

حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو عامر ، عن زمعة بن صالح ، عن سلمة بن وهرام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له .

طريق أخرى : قال الإمام الحافظ خطيب دمشق أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني السعدي : حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المحلل قال : " لا إلا نكاح رغبة ، لا نكاح دلسة ولا استهزاء بكتاب الله ، ثم يذوق عسيلتها " .

ويتقوى هذان الإسنادان بما رواه أبو بكر بن أبي شيبة ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن موسى بن أبي الفرات ، عن عمرو بن دينار ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من هذا فيتقوى كل من هذا المرسل والذي قبله بالآخر ، والله أعلم .

الحديث السادس : عن أبي هريرة . قال الإمام أحمد :

حدثنا أبو عامر ، حدثنا عبد الله ، هو ابن جعفر ، عن عثمان بن محمد المقبري ، عن أبي هريرة قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له .

وهكذا رواه أبو بكر بن أبي شيبة ، والجوزجاني ، والبيهقي ، من طريق عبد الله بن جعفر القرشي . وقد وثقه أحمد بن حنبل ، وعلي بن المديني ، ويحيى بن معين وغيرهم . وأخرج له مسلم في صحيحه ، عن عثمان بن محمد الأخنسي وثقه ابن معين عن سعيد المقبري ، وهو متفق عليه .

الحديث السابع : عن ابن عمر . قال الحاكم في مستدركه :

حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف المدني ، عن عمر بن نافع ، عن أبيه أنه قال : جاء رجل إلى ابن عمر ، فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا ، فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ، ليحلها لأخيه : هل تحل للأول ؟ فقال : لا إلا نكاح رغبة ، كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .

وقد رواه الثوري ، عن عبد الله بن نافع ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، به . وهذه الصيغة مشعرة بالرفع . وهكذا روى أبو بكر بن أبي شيبة ، والجوزجاني ، وحرب الكرماني ، وأبو بكر الأثرم ، من حديث الأعمش ، عن المسيب بن رافع ، عن قبيصة بن جابر ، عن عمر أنه قال : لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما .

وروى البيهقي من حديث ابن لهيعة ، عن بكير بن الأشج ، عن سليمان بن يسار : أن عثمان بن عفان رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ، ففرق بينهما . وكذا روي عن علي ، وابن عباس ، وغير واحد من الصحابة ، رضي الله عنهم .

وقوله : فإن طلقها أي : الزوج الثاني بعد الدخول بها فلا جناح عليهما أن يتراجعا أي : المرأة والزوج الأول إن ظنا أن يقيما حدود الله أي : يتعاشرا بالمعروف [ وقال مجاهد : إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة ] وتلك حدود الله أي : شرائعه وأحكامه ( يبينها ) أي : يوضحها لقوم يعلمون

وقد اختلف الأئمة ، رحمهم الله ، فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة أو طلقتين ، وتركها حتى انقضت عدتها ، ثم تزوجت بآخر فدخل بها ، ثم طلقها فانقضت عدتها ، ثم تزوجها الأول : هل تعود إليه بما بقي من الثلاث ، كما هو مذهب مالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وهو قول طائفة من الصحابة ، رضي الله عنهم ؟ أو يكون الزوج الثاني قد هدم ما قبله من الطلاق ، فإذا عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث ، كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله ؟ وحجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلأن يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى ، والله أعلم .

تفسير السعدي

يقول تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا } أي: الطلقة الثالثة { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } أي: نكاحا صحيحا ويطؤها, لأن النكاح الشرعي لا يكون إلا صحيحا, ويدخل فيه العقد والوطء, وهذا بالاتفاق. ويشترط أن يكون نكاح الثاني, نكاح رغبة، فإن قصد به تحليلها للأول, فليس بنكاح, ولا يفيد التحليل، ولا يفيد وطء السيد, لأنه ليس بزوج، فإذا تزوجها الثاني راغبا ووطئها, ثم فارقها وانقضت عدتها { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } أي: على الزوج الأول والزوجة { أَنْ يَتَرَاجَعَا } أي: يجددا عقدا جديدا بينهما, لإضافته التراجع إليهما, فدل على اعتبار التراضي. ولكن يشترط في التراجع أن يظنا { أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } بأن يقوم كل منهما, بحق صاحبه، وذلك إذا ندما على عشرتهما السابقة الموجبة للفراق, وعزما أن يبدلاها بعشرة حسنة, فهنا لا جناح عليهما في التراجع. ومفهوم الآية الكريمة, أنهما إن لم يظنا أن يقيما حدود الله, بأن غلب على ظنهما أن الحال السابقة باقية, والعشرة السيئة غير زائلة أن عليهما في ذلك جناحا, لأن جميع الأمور, إن لم يقم فيها أمر الله, ويسلك بها طاعته, لم يحل الإقدام عليها. وفي هذا دلالة على أنه ينبغي للإنسان, إذا أراد أن يدخل في أمر من الأمور, خصوصا الولايات, الصغار, والكبار, نظر في نفسه ، فإن رأى من نفسه قوة على ذلك, ووثق بها, أقدم, وإلا أحجم. ولما بين تعالى هذه الأحكام العظيمة قال: { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } أي: شرائعه التي حددها وبينها ووضحها. { يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } لأنهم هم المنتفعون بها, النافعون لغيرهم. وفي هذا من فضيلة أهل العلم, ما لا يخفى, لأن الله تعالى جعل تبيينه لحدوده, خاصا بهم, وأنهم المقصودون بذلك، وفيه أن الله تعالى يحب من عباده, معرفة حدود ما أنزل على رسوله والتفقه بها.

تفسير القرطبي

قوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون قوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فيه إحدى عشرة مسألة : الأولى : احتج بعض مشايخ خراسان من الحنفية بهذه الآية على أن المختلعة يلحقها الطلاق ، قالوا : فشرع الله سبحانه صريح الطلاق بعد المفاداة بالطلاق ؛ لأن الفاء حرف تعقيب ، فيبعد أن يرجع إلى قوله : الطلاق مرتان لأن الذي تخلل من الكلام يمنع بناء قوله فإن طلقها على قوله الطلاق مرتان بل الأقرب عوده على ما يليه كما في الاستثناء ولا يعود إلى ما تقدمه إلا بدلالة ، كما أن قوله تعالى : وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ، فصار مقصورا على ما يليه غير عائد على ما تقدمه حتى لا يشترط الدخول في أمهات النساء .

وقد اختلف العلماء في الطلاق بعد الخلع في العدة ، فقالت طائفة : إذا خالع الرجل زوجته ثم طلقها وهي في العدة لحقها الطلاق ما دامت في العدة ، كذلك قال سعيد بن المسيب وشريح وطاوس والنخعي والزهري والحكم وحماد والثوري وأصحاب الرأي . وفيه قول ثان وهو ( أن الطلاق لا يلزمها ) ، وهو قول ابن عباس وابن الزبير وعكرمة والحسن وجابر بن زيد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، وهو قول مالك إلا أن مالكا قال : إن افتدت منه على أن يطلقها ثلاثا متتابعا نسقا حين طلقها فذلك ثابت عليه ، وإن كان بين ذلك صمات فما أتبعه بعد الصمات فليس بشيء ، وإنما كان ذلك لأن نسق الكلام بعضه على بعض متصلا يوجب له حكما واحدا ، وكذلك إذا اتصل الاستثناء باليمين بالله أثر وثبت له حكم الاستثناء ، وإذا انفصل عنه لم يكن له تعلق بما تقدم من الكلام .

الثانية : المراد بقوله تعالى : فإن طلقها الطلقة الثالثة فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره . وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه .

واختلفوا فيما يكفي من النكاح ، وما الذي يبيح التحليل ، فقال سعيد بن المسيب ومن وافقه : مجرد العقد كاف . وقال الحسن بن أبي الحسن : لا يكفي مجرد الوطء حتى يكون إنزال . وذهب الجمهور من العلماء والكافة من الفقهاء إلى أن الوطء كاف في ذلك ، وهو التقاء الختانين الذي يوجب الحد والغسل ، ويفسد الصوم والحج ويحصن الزوجين ويوجب كمال الصداق . قال ابن العربي : ما مرت بي في الفقه مسألة أعسر منها ، وذلك أن من أصول الفقه أن الحكم هل يتعلق بأوائل الأسماء أو بأواخرها ؟ فإن قلنا : إن الحكم يتعلق بأوائل الأسماء لزمنا أن نقول بقول سعيد بن المسيب . وإن قلنا : إن الحكم يتعلق بأواخر الأسماء لزمنا أن نشترط الإنزال مع مغيب الحشفة في الإحلال ؛ لأنه آخر ذوق العسيلة على ما قاله الحسن . قال ابن المنذر : ومعنى ذوق العسيلة هو الوطء ، وعلى هذا جماعة العلماء إلا سعيد بن المسيب قال : أما الناس فيقولون : لا تحل للأول حتى يجامعها الثاني ، وأنا أقول : إذا تزوجها زواجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها فلا بأس أن يتزوجها الأول . وهذا قول لا نعلم أحدا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج ، والسنة مستغنى بها عما سواها .

قلت : وقد قال بقول سعيد بن المسيب سعيد بن جبير ، ذكره النحاس في كتاب " معاني القرآن " له . قال : وأهل العلم على أن النكاح هاهنا الجماع ؛ لأنه قال : زوجا غيره فقد تقدمت الزوجية فصار النكاح الجماع ، إلا سعيد بن جبير فإنه قال : النكاح هاهنا التزوج الصحيح إذا لم يرد إحلالها .

قلت : وأظنهما لم يبلغهما حديث العسيلة أو لم يصح عندهما فأخذا بظاهر القرآن ، وهو قوله تعالى : حتى تنكح زوجا غيره والله أعلم . روى الأئمة واللفظ للدارقطني عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ويذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه . قال بعض علماء الحنفية : من عقد على مذهب سعيد بن المسيب فللقاضي أن يفسخه ، ولا يعتبر فيه خلافه لأنه خارج عن إجماع العلماء . قال علماؤنا : ويفهم من قوله عليه السلام : حتى يذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه استواؤهما في إدراك لذة الجماع ، وهو حجة لأحد القولين عندنا في أنه لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم تحل لمطلقها ؛ لأنها لم تذق العسيلة إذا لم تدركها .

الثالثة : روى النسائي عن عبد الله قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة وآكل الربا وموكله والمحلل والمحلل له . وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له . وقال : هذا حديث حسن صحيح . وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه . والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وغيرهم ، وهو قول الفقهاء من التابعين ، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق ، وسمعت الجارود يذكر عن وكيع أنه قال بهذا ، وقال : ينبغي أن يرمى بهذا الباب من قول أصحاب الرأي . وقال سفيان : إذا تزوج الرجل المرأة ليحلها ثم بدا له أن يمسكها فلا تحل له حتى يتزوجها بنكاح جديد .

قال أبو عمر بن عبد البر : اختلف العلماء في نكاح المحلل ، فقال مالك ، المحلل لا يقيم على نكاحه حتى يستقبل نكاحا جديدا ، فإن أصابها فلها مهر مثلها ، ولا تحلها إصابته لزوجها الأول ، وسواء علما أو لم يعلما إذا تزوجها ليحلها ، ولا يقر على نكاحه ويفسخ ، وبه قال الثوري والأوزاعي . وفيه قول ثان روي عن الثوري في نكاح الخيار والمحلل أن النكاح جائز والشرط باطل ، وهو قول ابن أبي ليلى في ذلك وفي نكاح المتعة . وروي عن الأوزاعي في نكاح المحلل : بئس ما صنع والنكاح جائز . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : النكاح جائز إن دخل بها ، وله أن يمسكها إن شاء . وقال أبو حنيفة مرة هو وأصحابه : لا تحل للأول إن تزوجها ليحلها ، ومرة قالوا : تحل له بهذا النكاح إذا جامعها وطلقها . ولم يختلفوا في أن نكاح هذا الزوج صحيح ، وأن له أن يقيم عليه . وفيه قول ثالث - قال الشافعي : إذا قال أتزوجك لأحلك ثم لا نكاح بيننا بعد - ذلك فهذا ضرب من نكاح المتعة ، وهو فاسد لا يقر عليه ويفسخ ، ولو وطئ على هذا لم يكن تحليلا . فإن تزوجها تزوجا مطلقا لم يشترط ولا اشترط عليه التحليل فللشافعي في ذلك قولان في كتابه القديم : أحدهما مثل قول مالك ، والآخر مثل قول أبي حنيفة . ولم يختلف قوله في كتابه الجديد المصري أن النكاح صحيح إذا لم يشترط ، وهو قول داود .

قلت : وحكى الماوردي عن الشافعي أنه إن شرط التحليل قبل العقد صح النكاح وأحلها للأول ، وإن شرطاه في العقد بطل النكاح ولم يحلها للأول ، قال : وهو قول الشافعي . وقال الحسن وإبراهيم : إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فسد النكاح ، وهذا تشديد . وقال سالم والقاسم : لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان وهو مأجور ، وبه قال ربيعة ويحيى بن سعيد ، وقاله داود بن علي إذا لم يظهر ذلك في اشتراطه في حين العقد .

الرابعة : مدار جواز نكاح التحليل عند علمائنا على الزوج الناكح ، وسواء شرط ذلك أو نواه ، ومتى كان شيء من ذلك فسد نكاحه ولم يقر عليه ، ولم يحلل وطؤه المرأة لزوجها . وعلم الزوج المطلق وجهله في ذلك سواء . وقد قيل : إنه ينبغي له إذا علم أن الناكح لها لذلك تزوجها أن يتنزه عن مراجعتها ، ولا يحلها عند مالك إلا نكاح رغبة لحاجته إليها ، ولا يقصد به التحليل ، ويكون وطؤه لها وطئا مباحا : لا تكون صائمة ولا محرمة ولا في حيضتها ، ويكون الزوج بالغا مسلما . وقال الشافعي : إذا أصابها بنكاح صحيح وغيب الحشفة في فرجها فقد ذاقا العسيلة ، وسواء في ذلك قوي النكاح وضعيفه ، وسواء أدخله بيده أم بيدها ، وكان من صبي أو مراهق أو مجبوب بقي له ما يغيبه كما يغيب غير الخصي ، وسواء أصابها الزوج محرمة أو صائمة ، وهذا كله - على ما وصف الشافعي - قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح ، وقول بعض أصحاب مالك .

الخامسة : قال ابن حبيب : وإن تزوجها فإن أعجبته أمسكها ، وإلا كان قد احتسب في تحليلها الأجر لم يجز ، لما خالط نكاحه من نية التحليل ، ولا تحل بذلك للأول .

السادسة : وطء السيد لأمته التي قد بت زوجها طلاقها لا يحلها ، إذ ليس بزوج ، روي عن علي بن أبي طالب ، وهو قول عبيدة ومسروق والشعبي وإبراهيم وجابر بن زيد وسليمان بن يسار وحماد بن أبي سليمان وأبي الزناد ، وعليه جماعة فقهاء الأمصار . ويروى عن عثمان وزيد بن ثابت والزبير خلاف ذلك ، وأنه يحلها إذا غشيها سيدها غشيانا لا يريد بذلك مخادعة ولا إحلالا ، وترجع إلى زوجها بخطبة وصداق . والقول الأول أصح ، لقوله تعالى : حتى تنكح زوجا غيره والسيد إنما تسلط بملك اليمين وهذا واضح .

السابعة : في موطإ مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار سئلا عن رجل زوج عبدا له جارية له فطلقها العبد البتة ثم وهبها سيدها له هل تحل له بملك اليمين ؟ فقالا : لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره .

الثامنة : روي عن مالك أنه سأل ابن شهاب عن رجل كانت تحته أمة مملوكة فاشتراها وقد كان طلقها واحدة ، فقال : تحل له بملك يمينه ما لم يبت طلاقها ، فإن بت طلاقها فلا تحل له بملك يمينه حتى تنكح زوجا غيره . قال أبو عمر : وعلى هذا جماعة العلماء وأئمة الفتوى : مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور . وكان ابن عباس وعطاء وطاوس والحسن يقولون : ( إذا اشتراها الذي بت طلاقها حلت له بملك اليمين ) ، على عموم قوله عز وجل : أو ما ملكت أيمانكم . قال أبو عمر : وهذا خطأ من القول ؛ لأن قوله عز وجل : أو ما ملكت أيمانكم لا يبيح الأمهات ولا الأخوات ، فكذلك سائر المحرمات .

التاسعة : إذا طلق المسلم زوجته الذمية ثلاثا فنكحها ذمي ودخل بها ثم طلقها ، فقالت طائفة : الذمي زوج لها ، ولها أن ترجع إلى الأول ، هكذا قال الحسن والزهري وسفيان الثوري والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي . قال ابن المنذر : وكذلك نقول ؛ لأن الله تعالى قال : حتى تنكح زوجا غيره والنصراني زوج . وقال مالك وربيعة : لا يحلها .

العاشرة : النكاح الفاسد لا يحل المطلقة ثلاثا في قول الجمهور . مالك والثوري . والشافعي والأوزاعي وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ، كلهم يقولون : لا تحل للزوج الأول إلا بنكاح صحيح ، وكان الحكم يقول : هو زوج . قال ابن المنذر : ليس بزوج ؛ لأن أحكام الأزواج في الظهار والإيلاء واللعان غير ثابتة بينهما . وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن المرأة إذا قالت للزوج الأول : قد تزوجت ودخل علي زوجي وصدقها أنها تحل للأول . قال الشافعي : والورع ألا يفعل إذا وقع في نفسه أنها كذبته .

الحادية عشرة : جاء عن عمر بن الخطاب في هذا الباب تغليظ شديد وهو قوله : ( لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما ) . وقال ابن عمر : التحليل سفاح ، ولا يزالان زانيين ولو أقاما عشرين سنة . قال أبو عمر : لا يحتمل قول عمر إلا التغليظ ؛ لأنه قد صح عنه أنه وضع الحد عن الواطئ فرجا حراما قد جهل تحريمه وعذره بالجهالة ، فالتأويل أولى بذلك ولا خلاف أنه لا رجم عليه .

قوله تعالى : فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون فيه أربع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : فإن طلقها يريد الزوج الثاني . فلا جناح عليهما أي المرأة والزوج الأول ، قاله ابن عباس ، ولا خلاف فيه . قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق زوجته ثلاثا ثم انقضت عدتها ونكحت زوجا آخر ودخل بها ثم فارقها وانقضت عدتها ثم نكحت زوجها الأول أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات .

واختلفوا في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم تتزوج غيره ثم ترجع إلى زوجها الأول ، فقالت طائفة : تكون على ما بقي من طلاقها ، وكذلك قال الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب وعمران بن حصين وأبو هريرة . ويروى ذلك عن زيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وبه قال عبيدة السلماني وسعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وسفيان الثوري وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن نصر . وفيه قول ثان وهو ( أن النكاح جديد والطلاق جديد ) ، هذا قول ابن عمر وابن عباس ، وبه قال عطاء والنخعي وشريح والنعمان ويعقوب . وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال : كان أصحاب عبد الله يقولون : أيهدم الزوج الثلاث ، ولا يهدم الواحدة والاثنتين! قال : وحدثنا حفص عن حجاج عن طلحة عن إبراهيم أن أصحاب عبد الله كانوا يقولون : يهدم الزوج الواحدة والاثنتين كما يهدم الثلاث ، إلا عبيدة فإنه قال : هي على ما بقي من طلاقها ، ذكره أبو عمر . قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول . وفيه قول ثالث وهو : إن كان دخل بها الأخير فطلاق جديد ونكاح جديد ، وإن لم يكن دخل بها فعلى ما بقي ، هذا قول إبراهيم النخعي .

الثانية : قوله تعالى : إن ظنا أن يقيما حدود الله شرط . قال طاوس : إن ظنا أن كل واحد منهما يحسن عشرة صاحبه . وقيل : حدود الله فرائضه ، أي إذا علما أنه يكون بينهما الصلاح بالنكاح الثاني ، فمتى علم الزوج أنه يعجز عن نفقة زوجته أو صداقها أو شيء من حقوقها الواجبة عليه فلا يحل له أن يتزوجها حتى يبين لها ، أو يعلم من نفسه القدرة على أداء حقوقها ، وكذلك لو كانت به علة تمنعه من الاستمتاع كان عليه أن يبين ، كيلا يغر المرأة من نفسه . وكذلك لا يجوز أن يغرها بنسب يدعيه ولا مال له ولا صناعة يذكرها وهو كاذب فيها . وكذلك يجب على المرأة إذا علمت من نفسها العجز عن قيامها بحقوق الزوج ، أو كان بها علة تمنع الاستمتاع من جنون أو جذام أو برص أو داء في الفرج لم يجز لها أن تغره ، وعليها أن تبين له ما بها من ذلك ، كما يجب على بائع السلعة أن يبين ما بسلعته من العيوب ، ومتى وجد أحد الزوجين بصاحبه عيبا فله الرد ، فإن كان العيب بالرجل فلها الصداق إن كان دخل بها ، وإن لم يدخل بها فلها نصفه . وإن كان العيب بالمرأة ردها الزوج وأخذ ما كان أعطاها من الصداق ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني بياضة فوجد بكشحها برصا فردها وقال : دلستم علي .

واختلفت الرواية عن مالك في امرأة العنين إذا سلمت نفسها ثم فرق بينهما بالعنة ، فقال مرة : لها جميع الصداق ، وقال مرة : لها نصف الصداق ، وهذا ينبني على اختلاف قوله : بم تستحق الصداق بالتسليم أو الدخول ؟ قولان .

الثالثة : قال ابن خويزمنداد : واختلف أصحابنا هل على الزوجة خدمة أو لا ؟ فقال بعض أصحابنا : ليس على الزوجة خدمة ، وذلك أن العقد يتناول الاستمتاع لا الخدمة ، ألا ترى أنه ليس بعقد إجارة ولا تملك رقبة ، وإنما هو عقد على الاستمتاع ، والمستحق بالعقد هو الاستمتاع دون غيره ، فلا تطالب بأكثر منه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا . وقال بعض أصحابنا : عليها خدمة مثلها ، فإن كانت شريفة المحل ليسار أبوة أو ترفه فعليها التدبير للمنزل وأمر الخادم ، وإن كانت متوسطة الحال فعليها أن تفرش الفراش ونحو ذلك ، وإن كانت دون ذلك فعليها أن تقم البيت وتطبخ وتغسل . وإن كانت من نساء الكرد والديلم والجبل في بلدهن كلفت ما يكلفه نساؤهم ، وذلك أن الله تعالى قال : ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف . وقد جرى عرف المسلمين في بلدانهم في قديم الأمر وحديثه بما ذكرنا ، ألا ترى أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يتكلفون الطحين والخبيز والطبخ وفرش الفراش وتقريب الطعام وأشباه ذلك ، ولا نعلم امرأة امتنعت من ذلك ، ولا يسوغ لها الامتناع ، بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصرن في ذلك ، ويأخذونهن بالخدمة ، فلولا أنها مستحقة لما طالبوهن ذلك .

الرابعة : قوله تعالى : وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون حدود الله : ما منع منه ، والحد مانع من الاجتزاء على الفواحش ، وأحدت المرأة : امتنعت من الزينة ، ورجل محدود : ممنوع من الخير ، والبواب حداد أي مانع . وقد تقدم هذا مستوفى . وإنما قال : لقوم يعلمون لأن الجاهل إذا كثر له أمره ونهيه فإنه لا يحفظه ولا يتعاهده . والعالم يحفظ ويتعاهد ، فلهذا المعنى خاطب العلماء ولم يخاطب الجهال .

تفسير الطبري

فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره

القول في تأويل قوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } اختلف أهل التأويل فيما دل عليه هذا القول من الله تعالى ذكره ; فقال بعضهم : دل على أنه إن طلق الرجل امرأته التطليقة الثالثة بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما : { الطلاق مرتان } فإن امرأته تلك لا تحل له بعد التطليقة الثالثة حتى تنكح زوجا غيره , يعني به غير المطلق . ذكر من قال ذلك : 3856 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد بن زريع , قال : ثنا سعيد , عن قتادة , قال : جعل الله الطلاق ثلاثا , فإذا طلقها واحدة فهو أحق بها ما لم تنقض العدة , وعدتها ثلاث حيض , فإن انقضت العدة قبل أن يكون راجعها فقد بانت منه , وصارت أحق بنفسها , وصار خاطبا من الخطاب , فكان الرجل إذا أراد طلاق أهله نظر حيضتها , حتى إذا طهرت طلقها تطليقة في قبل عدتها عند شاهدي عدل , فإن بدا له مراجعتها راجعها ما كانت في عدتها , وإن تركها حتى تنقضي عدتها فقد بانت منه بواحدة , وإن بدا له طلاقها بعد الواحدة وهي في عدتها نظر حيضتها , حتى إذا طهرت طلقها تطليقة أخرى في قبل عدتها , فإن بدا له مراجعتها راجعها , فكانت عنده على واحدة , وإن بدا له طلاقها طلقها الثالثة عند طهرها , فهذه الثالثة التي قال الله تعالى ذكره : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } 3857 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس قوله : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } يقول : إن طلقها ثلاثا , فلا تحل حتى تنكح زوجا غيره . 3858 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا جويبر , عن الضحاك , قال : إذا طلق واحدة أو ثنتين فله الرجعة ما لم تنقض العدة , قال : والثالثة قوله : { فإن طلقها } يعني بالثالثة فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجا غيره . * حدثنا يحيى بن أبي طالب , قال : ثنا يزيد , قال : أخبرنا جويبر , عن الضحاك , بنحوه . 3859 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : { فإن طلقها } بعد التطليقتين فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره , وهذه الثالثة وقال آخرون : بل دل هذا القول على ما يلزم مسرح امرأته بإحسان بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما : { الطلاق مرتان } قالوا : وإنما بين الله تعالى ذكره بهذا القول عن حكم قوله : { أو تسريح بإحسان } وأعلم أنه إن سرح الرجل امرأته بعد التطليقتين فلا تحل له المسرحة كذلك إلا بعد زوج . ذكر من قال ذلك : 3860 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غير } قال : عاد إلى قوله : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } . * حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله . قال أبو جعفر : والذي قاله مجاهد في ذلك عندنا أولى بالصواب للذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي رويناه عنه أنه قال : أو سئل فقيل : هذا قول الله تعالى ذكره : { الطلاق مرتان } فأين الثالثة ؟ قال : " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " . فأخبر صلى الله عليه وسلم , أن الثالثة إنما هي قوله : { أو تسريح بإحسان } فإذ كان التسريح بالإحسان هو الثالثة , فمعلوم أن قوله : { فإن طلقها فلا تحل لا من بعد حتى تنكح زوجا غيره } من الدلالة على التطليقة الثالثة بمعزل , وأنه إنما هو بيان عن الذي يحل للمسرح بالإحسان إن سرح زوجته بعد التطليقتين , والذي يحرم عليه منها , والحال التي يجوز له نكاحها فيها , وإعلام عباده أن بعد التسريح على ما وصفت لا رجعة للرجل على امرأته . فإن قال قائل : فأي النكاحين عنى الله بقوله : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } النكاح الذي هو جماع أم النكاح الذي هو عقد تزويج ؟ قيل : كلاهما , وذلك أن المرأة إذا نكحت رجلا نكاح تزويج لم يطأها في ذلك النكاح ناكحها ولم يجامعها حتى يطلقها لم تحل للأول , وكذلك إن وطئها واطئ بغير نكاح لم تحل للأول بإجماع الأمة جميعا . فإذ كان ذلك كذلك , فمعلوم أن تأويل قوله : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } نكاحا صحيحا , ثم يجامعها فيه , ثم يطلقها . فإن قال : فإن ذكر الجماع غير موجود في كتاب الله تعالى ذكره , فما الدلالة على أن معناه ما قلت ؟ قيل : الدلالة على ذلك إجماع الأمة جميعا على أن ذلك معناه . وبعد , فإن الله تعالى ذكره قال : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } فلو نكحت زوجا غيره بعقب , الطلاق قبل انقضاء عدتها , كان لا شك أنها ناكحة نكاحا بغير المعنى الذي أباح الله تعالى ذكره لها ذلك به , وإن لم يكن ذكر العدة مقرونا بقوله : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } لدلالته على أن ذلك كذلك بقوله : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ; وكذلك قوله : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } وإن لم يكن مقرونا به ذكر الجماع والمباشرة والإفضاء فقد دل على أن ذلك كذلك بوحيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانه ذلك على لسانه لعباده . ذكر الأخبار المروية بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : 3861 - حدثني عبيد الله بن إسماعيل الهباري , وسفيان بن وكيع , وأبو هشام الرفاعي , قالوا : ثنا أبو معاوية , عن الأعمش , عن إبراهيم , عن الأسود , عن عائشة , قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته فتزوجت رجلا غيره فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها , أتحل لزوجها الأول ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحل لزوجها الأول حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته " . * حدثني المثنى , قال : ثنا سويد بن نصر , قال : أخبرنا ابن المبارك , عن هشام بن عروة , عن أبيه , عن عائشة , عن النبي صلى الله عليه وسلم , نحوه . 3862 - حدثنا سفيان بن وكيع , قال : ثنا ابن عيينة , عن الزهري , عن عروة , عن عائشة , قال : سمعتها تقول : جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقالت : كنت عند رفاعة فطلقني , فبت طلاقي , فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير , وإن ما معه مثل هدبة الثوب , فقال لها : " تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا , حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " . * حدثني المثنى , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثني الليث , قال : ثني يونس , عن ابن شهاب , عن عروة , عن عائشة , نحوه . * حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني الليث , قال : ثني عقيل , عن ابن شهاب , قال : ثنى عروة بن الزبير , أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن امرأة رفاعة القرظي جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله , فذكر مثله . 3863 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن الزهري , عن عروة , عن عائشة أن رفاعة القرظي طلق امرأته , فبت طلاقها , فتزوجها بعد عبد الرحمن بن الزبير , فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا نبي الله إنها كانت عند رفاعة , فطلقها آخر ثلاث تطليقات , فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير , وإنه والله ما معه يا رسول الله إلا مثل الهدبة . فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم قال لها : " لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا , حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " قالت : وأبو بكر جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم وخالد بن سعيد بن العاص بباب الحجرة لم يؤذن له , فطفق خالد ينادي يا أبا بكر يقول : يا أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ . 3864 - حدثنا محمد بن يزيد الأودي , قال : ثنا يحيى بن سليم , عن عبيد الله , عن القاسم , عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا حتى يذوق من عسيلتها ما ذاق الأول " . * حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال : ثنا معتمر بن سليمان , قال : سمعت عبيد الله , قال : سمعت القاسم يحدث عن عائشة , قال : قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حتى يذوق من عسيلتها ما ذاق صاحبه " . * حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا يحيى , عن عبيد الله , قال : ثنا القاسم , عن عائشة , أن رجلا طلق امرأته ثلاثا , فتزوجت زوجا , فطلقها قبل أن يمسها , فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتحل للأول ؟ قال : " لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول " . 3865 - حدثنا سفيان بن وكيع , قال : ثنا موسى بن عيسى الليثي , عن زائدة , عن علي بن زيد , عن أم محمد , عن عائشة , عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال : " إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره , فيذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه " . 3866 - حدثني العباس بن أبي طالب , قال : أخبرنا سعيد بن حفص الطلحي , قال : أخبرنا شيبان , عن يحيى , عن أبي الحارث الغفاري , عن أبي هريرة , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال : " وحتى يذوق عسيلتها " . 3867 - حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني , قال : ثني أبي , قال : ثنا شيبان , قال : ثنا يحيى بن أبي كثير , عن أبي الحارث الغفاري , عن أبي هريرة , قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة يطلقها زوجها ثلاثا , فتتزوج غيره , فيطلقها قبل أن يدخل بها , فيريد الأول أن يراجعها , قال : " لا , حتى يذوق عسيلتها " . 3868 - حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي , قال : ثنا هشام بن عبد الملك , قال : ثنا محمد بن دينار , قال : حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي , عن أنس بن مالك , عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل طلق امرأته ثلاثا , فتزوجها آخر فطلقها قبل أن يدخل بها , أترجع إلى زوجها الأول ؟ قال : " لا , حتى يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته " . 3869 - حدثني يعقوب بن إبراهيم , ويعقوب بن ماهان , قالا : ثنا هشيم , قال : أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق , عن سليمان بن يسار , عن عبيد الله بن العباس : أن الغميصاء أو الرميصاء جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها , وتزعم أنه لا يصل إليها , قال : فما كان إلا يسيرا حتى جاء زوجها , فزعم أنها كاذبة , ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس لك حتى يذوق عسيلتك رجل غيره " . 3870 - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , عن علقمة بن مرثد , عن سالم بن رزين الأحمري , عن سالم بن عبد الله , عن سعيد بن المسيب , عن ابن عمر , عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة , فتتزوج زوجا آخر , فيطلقها قبل أن يدخل بها , أترجع إلى الأول ؟ قال : " لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها " . * حدثنا ابن بشار , قال : ثنا عبد الرحمن , قال : ثنا سفيان , عن علقمة بن مرثد , عن رزين الأحمري , عن ابن عمر , عن النبي أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا , فيتزوجها رجل , فأغلق الباب , فطلقها قبل أن يدخل بها , أترجع إلى زوجها الآخر ؟ قال : " لا حتى يذوق عسيلتها " . * حدثنا ابن بشار , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا سفيان , عن علقمة بن مرثد , عن سليمان بن رزين , عن ابن عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب عن رجل طلق امرأته , فتزوجت بعده , ثم طلقها أو مات عنها , أيتزوجها الأول ؟ قال : " لا حتى تذوق عسيلته " .فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله

القول في تأويل قوله تعالى : { فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } يعني تعالى ذكره بقوله : { فإن طلقها } فإن طلق المرأة التي بانت من زوجها بآخر التطليقات الثلاث بعد ما نكحها مطلقها الثاني , زوجها الذي نكحها بعد بينونتها من الأول ; { فلا جناح عليهما } يقول تعالى ذكره : فلا حرج على المرأة التي طلقها هذا الثاني من بعد بينونتها من الأول , وبعد نكاحه إياها , وعلى الزوج الأول الذي كانت حرمت عليه ببينونتها منه بآخر التطليقات أن يتراجعا بنكاح جديد . كما : 3871 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } يقول : إذا تزوجت بعد الأول , فدخل الآخر بها , فلا حرج على الأول أن يتزوجها إذا طلق الآخر أو مات عنها , فقد حلت له . 3872 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثنا هشام , قال : أخبرنا جويبر , عن الضحاك , قال : إذا طلق واحدة أو ثنتين , فله الرجعة ما لم تنقض العدة . قال : والثالثة قوله : { فإن طلقها } يعني الثالثة فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجا غيره , فيدخل بها , فإن طلقها هذا الأخير بعد ما يدخل بها , فلا جناح عليهما أن يتراجعا - يعني الأول - إن ظنا أن يقيما حدود الله . وأما قوله : { إن ظنا أن يقيما حدود الله } فإن معناه : إن رجوا مطمعا أن يقيما حدود الله . وإقامتهما حدود الله : العمل بها , وحدود الله : ما أمرهما به , وأوجب بكل واحد منهما على صاحبه , وألزم كل واحد منهما بسبب النكاح الذي يكون بينهما . وقد بينا معنى الحدود ومعنى إقامة ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وكان مجاهد يقول في تأويل قوله : { إن ظنا أن يقيما حدود الله } ما : 3873 - حدثني به محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قوله : { إن ظنا أن يقيما حدود الله } إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة . * حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله . وقد وجه بعض أهل التأويل قوله { إن ظنا } إلى أنه بمعنى : إن أيقنا . وذلك ما لا وجه له , لأن أحدا لا يعلم ما هو كائن إلا الله تعالى ذكره . فإذ كان ذلك كذلك , فما المعنى الذي به يوقن الرجل والمرأة أنهما إذا تراجعا أقاما حدود الله ؟ ولكن معنى ذلك كما قال تعالى ذكره : { إذ ظنا } بمعنى طمعا بذلك ورجواه ; " وأن " التي في قوله { أن يقيما } في موضع نصب ب " ظنا " , و " أن " التي في { أن يتراجعا } جعلها بعض أهل العربية في موضع نصب بفقد الخافض , لأن معنى الكلام : فلا جناح عليهما في أن يتراجعا , فلما حذفت " في " التي كانت تخفضها نصبها , فكأنه قال : فلا جناح عليهما تراجعهما . وكان بعضهم يقول : موضعه خفض , وإن لم يكن معها خافضها , وإن كان محذوفا فمعروف موضعه .وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون

القول في تأويل قوله تعالى : { وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون } يعني تعالى ذكره بقوله : { وتلك حدود الله } هذه الأمور التي بينها لعباده في الطلاق والرجعة والفدية والعدة والإيلاء وغير ذلك مما يبينه لهم في هذه الآيات , حدود الله معالم فصول حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته , { يبينها } : يفصلها , فيميز بينها , ويعرفهم أحكامها لقوم يعلمونها إذا بينها الله لهم , فيعرفون أنها من عند الله , فيصدقون بها , ويعملون بما أودعهم الله من علمه , دون الذين قد طبع الله على قلوبهم , وقضى عليهم أنهم لا يؤمنون بها , ولا يصدقون بأنها من عند الله , فهم يجهلون أنها من الله , وأنها تنزيل من حكيم حميد . ولذلك خص القوم الذي يعلمون بالبيان دون الذين يجهلون , إذ كان الذين يجهلون أنها من عنده قد آيس نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من تصديق كثير منهم بها , وإن كان بينها لهم من وجه الحجة عليهم ولزوم العمل لهم بها , وإنما أخرجها من أن تكون بيانا لهم من وجه تركهم الإقرار والتصديق به .

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق